إعلان

في ذكرى مولد الـ"رحمة للعالمين".. الشيخ محمود الهواري: هذا واجبنا تجاه النبي (حوار)

01:52 م الأربعاء 28 أكتوبر 2020

حوار - محمد قادوس

قال الدكتور محمود الهواري، عضو المكتب الفني لوكيل الأزهر، وأحد خطباء الجامع الأزهر الشريف، إن رسول الله وخاتم النَّبيِّين صلَّى الله عليه وسلَّم، فضلًا عن كونه قدوة حسنة في كلِّ مجالات الحياة، فهو قدوة وهو زوج، وهو والد، وهو صديق، وهو تاجر، وهو مسافر، وهو مقيم، وهو عابد، وهو ذاكر، وهو معلِّم، حتَّى إنَّ الله تعالى لما أعلمنا أن نتَّخذ منه قدوة لم يحدِّد مجالا واحدًا للتَّأسِّي والاقتداء، بل جعلها قدوة مطلقة، يقول الله تعالى: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» هكذا بالإطلاق؛ ليجد كلُّ إنسان في حياة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الثَّريَّة جانبًا من جوانب الاتِّباع يلزمه فيكون فيه شيء من شخصيَّة النَّبيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.

وحول مسألة الكلام عنه صلَّى الله عليه وسلَّم كواحد من العباقرة، أو الأذكياء، أو المصلحين الاجتماعيِّين لا يعطيه قدره، ولا مكانته اللَّائقة؛ فما سمعنا عن واحد من عباقرة العالم في أيِّ مجال انشقَّ له القمر، أو سبَّح الحصى في كفِّه، أو حنَّ الجذع إليه؟!فهو أكبر من كلِّ عبقري، وأعظم من كلِّ مصلح وإلى نص الحوار:

* مع إطلالة شهر ربيع الأوَّل من كلِّ عام هجريٍّ تتحوَّل الشَّوارع إلى شكلٍ احتفاليٍّ ومهرجان يملؤه الفرح والسُّرور بذكرى ميلاد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كيف ترى هذه الذِّكرى؟

- بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، وصلَّى الله وسلَّم على النَّبيِّ الهادي الكريم، وبعد فهذا السُّؤال يجاب عنه من وجهين:

الأوَّل: أنَّ انتشار الزِّينة في الشَّوارع والطُّرقات ليس غريبًا؛ فالأرض والسَّماء وكلُّ ما خلق الله عزَّ وجلَّ يفرح بعطاء الله، وسيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفضل عطاء، وخير هديَّة؛ فقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين من الإنس والجنِّ والطَّير والوحش والشَّجر والدَّوابِّ والجمادات، فكيف لا تفرح الدُّنيا بميلاد نبيِّ الرَّحمة؟!

وأمَّا الثَّاني فأخشى أن يكون قدوم شهر ربيع الأوَّل وحدَه هو الَّذي يذكِّرنا بسيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والواجب على الدُّنيا كلِّها ألَّا تنساه، وخاصَّة المسلمين.

* عفوًا يا دكتور، حضرتك تقول: إنَّ الواجب على الدُّنيا كلِّها ألَّا تنساه، وهذا كلام قد يكون مقبولًا لو قلنا: الواجب على المسلمين أن يذكروه، هل يمكن توضيح المعنى الَّذي تقصده؟

نعم أنا أقول: إنَّ الواجب على الدُّنيا كلِّها أن تذكره، وأن تحيي مآثره، وأن تتَّبع منهجه؛ وذلك لأنَّ الله سبحانه وتعالى أرسله صلَّى الله عليه وسلَّم رحمة للعالمين، ولم يرسله رحمة للمسلمين وحدَهم، بل كان رحمةً للمسلم وغير المسلم، وكان رحمة للمطيع والعاصي، وكان رحمة لمن آمن به وصدَّقه، ولمن كفر به وعانده.

وهو صلَّى الله عليه وسلَّم رحمة للشَّرق وللغرب، وللأسيويِّ والإفريقيِّ والأوربِّيِّ والأمريكيِّ، ولكلِّ ما خلق الله تعالى.

منهجه صلَّى الله عليه وسلَّم رحمة للعالمين، والكتاب الَّذي أُنزِل عليه رحمة للعالمين، والأخلاق والفضائل الَّتي بثَّها في الدُّنيا رحمة للعالمين.

وأقول: إنَّ الواجب على الدُّنيا بأسرها أن تذكره؛ لأنَّ المجتمعات تذكر من تركوا بصمةً إنسانيَّةً حضاريَّةً في العالم، فضلًا عن أنَّ الأمم تحيي مآثر رجالها وقادتها وزعمائها، وقد كان رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم صاحب أثر لا ينكر في البناء الحضاريِّ للإنسانيَّة، وليراجع كلُّ ذي بصرٍ صحيحٍ شواهدَ التَّاريخ الَّتي تصارحهم بآثار الإسلام في ربوع الدُّنيا، بناء وتشييدًا، وعلمًا وتطبيقًا، وحضارة ومدنيَّة وثقافةً.

والمنصفون من الكتَّاب والمفكِّرين يقرُّون بأنَّ سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحد العظماء الَّذين أثَّروا في تَاريخ البشريَّة على الأقلّ، إن لم يكن أعظمهم بشهاداتهم.

وأحبُّ أن أشير هنا إلى لطيفة مهمَّة، وهي أنَّ الكتَّاب والمفكِّرين المنصفين حين تكلَّموا عن سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ووصفوه بالتَّفرُّد والتَّميُّز والعبقريَّة في مجالات الحياة فَاتَهم أن يذكروا صفته الأولى الأصيلة، وهي أنَّه رسول من الله يأتيه وحيٌ من السَّماء.

وتذكُّر هذه الصِّفة يقطع الطَّريق على كثير من المغالطين الَّذين يتعمَّدون إظهار الإسلام في صورة تخالف حقيقته، وما كان وحي السَّماء إلا راحة وسعادة للإنسانيَّة.

* وهل ذِكرُ صفة النُّبوَّة والرِّسالة يؤثِّر في تعاملنا معه واحتفالنا به صلَّى الله عليه وسلَّم؟

- الجواب عن هذا السُّؤال بآية من كتاب الله عزَّ وجلَّ، يعرِّفنا فيها ربُّنا على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم حين يقول: «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ...»

فهو رسول الله وخاتم النَّبيِّين صلَّى الله عليه وسلَّم، فضلًا عن كونه قدوة حسنة في كلِّ مجالات الحياة، فهو قدوة وهو زوج، وهو والد، وهو صديق، وهو تاجر، وهو مسافر، وهو مقيم، وهو عابد، وهو ذاكر، وهو معلِّم، حتَّى إنَّ الله تعالى لما أعلمنا أن نتَّخذ منه قدوة لم يحدِّد مجالا واحدًا للتَّأسِّي والاقتداء، بل جعلها قدوة مطلقة، يقول الله تعالى: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» هكذا بالإطلاق؛ ليجد كلُّ إنسان في حياة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الثَّريَّة جانبًا من جوانب الاتِّباع يلزمه فيكون فيه شيء من شخصيَّة النَّبيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.

إنَّ الكلام عنه صلَّى الله عليه وسلَّم كواحد من العباقرة، أو الأذكياء، أو المصلحين الاجتماعيِّين لا يعطيه قدره، ولا مكانته اللَّائقة؛ فما سمعنا عن واحد من عباقرة العالم في أيِّ مجال انشقَّ له القمر، أو سبَّح الحصى في كفِّه، أو حنَّ الجذع إليه؟!

فهو أكبر من كلِّ عبقري، وأعظم من كلِّ مصلح.

*ولكن الواقع الآن مختلف تمامًا، وقد أسيء إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم باسم الحريَّة في رسوم مرفوضة؟

التَّشدُّق بالحريَّات كِذبة كبرى، وأمر مفضوح مكشوف، فهؤلاء الَّذين يرون الرُّسوم المسيئة لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم من الحريَّة، هم أنفسهم يرفضون الحريَّة ويذمُّونها إن أساء أحد إليهم فرسَمَ صورَهم، وإن كانوا في الميزان لا يساوون شيئًا!

وهذه سياسة الكيل بمكيالين، بل بعدَّة مكاييل تجاه الشَّرق، وحضارته، وتاريخه، ومقدَّساته، وعاداته وتقاليده.

أضف إلى ذلك آفة أخرى، وهي التَّوظيف السِّياسي للدِّين، واستباحة كلِّ شيء -ولو كان مقدَّسًا- في سبيل تحقيق مكاسب دنيويَّة، وقد ابتليت مجتمعاتنا بذلك أيضًا.

ولكن ما يهمُّني هنا هو الواجب علينا تجاه نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، والانتصار له.

* كلام مهمٌّ يا فضيلة الدُّكتور، وكأنَّك ترى أنَّ الأمَّة يجب عليها أن تتعامل مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشكلٍ خاصٍّ؟

- نعم، إنَّ ممَّا ينبغي أن تعلمه الأمَّة -أفرادًا ومؤسَّسات وشعوبًا- أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم له عليها حقُّ الوفاء والبرِّ وردِّ الجميل.

وانظر في كتب التُّراث الَّتي تأدَّب أهلها مع الرَّسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم لتعرف كيف فصَّلت في حقوقه، وكيف وضَّحت السَّبيل لكلِّ محبٍّ متَّبع.

انظر في كتب السِّيرة والشَّمائل على كثرتها، وانظر في كتب السُّلوك والأخلاق على تعدُّدها، وانظر في كتب العلوم على تنوُّعها ترى جملة كبيرة جدًّا من الآداب ينبغي على الأمَّة بأفرادها ومؤسَّساتها أن تلزمها، لتملك عليها قلوبها وعقولها وسلوكها حتَّى تملأ جنبات الأرض.

* ألا تظنّ أنَّ بعض هذا الكلام قد يستقبله البعض على أنَّه مبالغة؟

- مشكلة من يستقبل هذا الكلام على أنَّه مبالغة في حقِّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ قلوبهم قاسية خالية من الحبِّ، فهم جفاة، ومدار الأمر على الحبِّ.

وليس في هذا الكلام مبالغة إطلاقًا، بل إنَّ الأمَّة يجب عليها أن تَفِي للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بحقوقه.

* نودُّ أن تفصِّل لنا شيئا من هذه الحقوق؟

أنا أرى أنَّ العلاقة بيننا وبين الله تعالى، وبيننا وبين سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مبناها على الحبِّ كما قلت، وعن هذا الحبِّ يتفرَّع كلُّ أدبٍ وكلُّ خلق.

ولذا فإنَّ أوَّل واجب على الأمَّة أن تحبَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

* يا فضيلة الدكتور، يخيَّل إليَّ أنَّ حبَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مسألة لا يخالف فيها أحدٌ، فهي مسألة محسومة؟

الَّذي أعنيه وأنا أتكلَّم عن حبِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ليس هذا الحبّ النَّظريَّ، الَّذي يسهل على الإنسان أن يدَّعيَه، ولكن أن نفهم لماذا نحبُّه، وكيف نحبُّه، وأن نقدِّم دليلًا على هذا الحبِّ.

* لنبدأ أوَّلًا لماذا نحبُّه صَّلى الله عليه وسلَّم؟

الكلام عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يكفيه مقال، ولا يحويه كتاب؛ ولذا سأحاول الاختصار قدر الاستطاعة.

وسأحاول أن أقرِّب الجواب عن سؤال: لماذا نحبُّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

النَّاس في الدُّنيا يحبُّ بعضهم بعضًا لأسباب، منها أن يكون بينهم علاقات طيِّبة، وتبادل نصائح وهدايا وما أشبه هذا.

وربما يظلُّ الإنسان فترة طويلة جدًّا يثني على أبيه أو أمِّه أو جاره أو صديقه لأنَّه دلَّه على ما ينفعه، وهذا أمر محمود في العلاقات بين النَّاس.

لكن قد يكون والدك هو سبب طعامك وشرابك ولبسك، وقد تكون أمُّك سبب رضاعك ورعايتك، وقد تكون زوجتك سبب سعادتك بأولادك، وبيتك، وقد يكون صديقك أو جارك أو كلُّ هؤلاء سببا في عملك أو نجاحك أو غير ذلك، ولكنَّ هؤلاء جميعًا لم يدلُّوك على الله، ولم يعرِّفوك طريق الجنَّة، وإنَّما الَّذي جاءك بأسباب دخول الجنَّة، والَّذي عرَّفك الطَّريق إلى الله هو النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

فأوَّل موجبات الحبِّ أن تقرَّ له بفضله عليك إذ دلَّك على الله.

فضلًا عن أسباب أخرى لحبِّه، من تأمَّلها عقلها، ويكفي أن يعرض الله شيئا منها في قوله تعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ».

* وكيف نحبُّه صَّلى الله عليه وسلَّم؟

المحبوبات في الدُّنيا كثيرة، والنَّاس يتفاوتون في محبوباتهم، فمنهم من يحبُّ المال، وبعضهم يحبُّ المناصب، وبعضهم يحبُّ الشُّهرة، وبعضهم يحبُّ الأولاد، وهكذا.

ولكنَّ حبَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يجب أن يكون أكبر من هذه المحبوبات كلِّها، وقد أعلن القرآن الكريم هذا في قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»

قال القاضي عياض في كتاب الشِّفا: "كَفَى بِهَذَا حَضًّا وَتَنْبِيهًا وَدَلَالَةً وَحُجَّةً على التزام مَحَبَّتِهِ وَوُجُوبِ فَرْضِهَا، وَاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ قرّع الله تَعَالَى مَنْ كَانَ مَالُهُ وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى «فتربَّصوا حتّى يأتيَ اللهُ بأمرِه» ثُمَّ فَسَّقَهُمْ بِتَمَامِ الْآيَةِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ مِمَّنْ ضلَّ ولم يهده الله".

والكلام في المحبَّة كلام كثير طيِّبٌ، ويكفي منه أنَّ الإنسان يذوق حلاوة الإيمان بهذا الحبِّ، يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».

* وما أدلَّة حبِّه صَّلى الله عليه وسلَّم؟

- هنا نحن نتكلَّم عن التَّرجمة العمليَّة للحبِّ، وأوَّل ترجمة الحبِّ التَّوقير.

ومن توقيره عدم رفع الصوت عنده، قال جلَّ شأنه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ».

وقصَّة هذه الآية ما ذكره البخاريُّ في صحيحه عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَقَالَ عُمَرُ بَلْ أَمِّرِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إِلَى -أَوْ إِلَّا- خِلاَفِي فَقَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية.

وتأمَّل هنا خطورة ما في الآية، وتأمَّل فيمن نزلت، ثمَّ اسأل بعدها كيف حالنا نحن الآن مع نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وممَّا يتبع توقيره صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا يُرفع الصَّوت في مسجده، ففي صحيح البخاري عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا. قَال:َ مَنْ أَنْتُمَا، أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا؛ تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ويتبع توقيره عدم رفع الصَّوت في الرَّوضة؛ فحرمته لا تنقطع حيًّا وميتًا.

ومن وقع في شيء من عدم التَّوقير كان عمله عرضة للحبوط والضَّياع وهو لا يشع.

* اسمح لي يا فضيلة الدُّكتور، لكنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليس بيننا الآن، فكيف ننهى عن رفع أصواتنا عنده؟

إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإن كان قد قبضه الله إلا أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم حيٌّ فينا بسنَّته، ناطق بشرع ربِّه، فمتى سمعت متكلِّمًا يحدِّث بكلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأصغ سمعك وقلبك، ولا تقطع حديثه، ووقِّر العلم والعلماء؛ فالعلماء ورثة الأنبياء.

ليس بيننا، ولكن سنته بيننا، وقرآن الله فينا، ومنهج الإسلام في قلوبنا، فكما يجب عليك أن تسمع له وتطيع في حياته، فكذلك يجب أن تسمع وتطيع لمنهجه بعد انتقاله.

فالنَّهي المعاصر أن ترفع صوتك بالاعتراض على السُّنَّة، أو ترفع راية تأخيرها، أو تقدِّم منهجًا على منهجه.

* سبحان الله، هذه الآداب حجَّة على كثير من النَّاس الآن؟

نعم، كثير من النَّاس قصَّر في حقوق النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وحقوقه صلَّى الله عليه وسلَّم كثيرة فصَّلتها الكتب كما قلت، ومنها: اتِّباع أمره، واجتناب نهيه، وطلب رؤيته، ونشر سنَّته، والشَّوق إليه، وكثرة الصَّلاة والسَّلام عليه، وفي ذلك من الخيرات ما فيه.

نسأل الله ألَّا يحرمنا من نبيِّنا.

فيديو قد يعجبك: