إعلان

هل أراك؟|(10).. محاكمة المحتل (بروفايل)

10:02 م الجمعة 18 سبتمبر 2020

من جلسات قضية مجزرة شفا عمرو

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-إشراق أحمد:

في حيفا، سقط العدل مثل ملامح المدينة الفلسطينية، لم يعد المكان لأهله ولا كفة الحق تَرجح لهم. داخل المحكمة المركزية بحث رئيس القضاء الإسرائيلي عن صيغة للحكم، وصل بالنهاية إلى "محاولة القتل غير المتعمد"، وعليه أن يدفع سبعة فلسطينيين الثمن، والتهمة التصدي لجندي إسرائيلي أمسك بندقيته وقتل بها من تواجد في الحافلة المتجهة صوب مدينة شفا عمرو. أخبر القاضي في قراره أن قتل الجاني خطأ يلزم العقوبة، فلا يحق لشخص أن يقضي على قاتل حتى لو رأه يرتكب جريمة، بل كان عليهم أن يتركوه للقانون والسلطات.

محاكمة المحتل لأهالي شفا عمرو لا ينساها سكان المدينة الواقعة شمال شرق حيفا، ليست في التاريخ البعيد لتُغفل، ولا شهودها غائبين، مازال ثلاثة منازل تئن من فقد ذويهم بدم بارد، ونحو 15 فلسطينيًا تُذكره الإصابة بما جرى في الرابع من أغسطس 2005.

رأت بديعة شعبان الموت يمشي بحذاء أسود، اختبأت الطالبة الجامعية تحت المقعد، لم يكن فعلها يمنع عنها مصير رفاق الحافلة رقم 165، لكن ماذا يفعل أحدهم يرى طلقة تخرج من سلاح جندي نحو السائق، فيتهشم رأسه، ويلتفت بهدوء ليكرر الأمر ذاته مع الركاب واحدًا تلو الآخر، انهمرت الدماء في طرقة الحافلة، كانت مجزرة، والقدر وحده عطل سلاح المعتدي بينما يصوبه إلى بديعة، لتحظى بفرصة أليمة لمواجهة الإسرائيلي عيدان ناتان زادا، دفعته بيداها "وصرخت فيه بالعبري والإنجليزي لكن ما جاوب شيء". غادرت الناجية حافلة الموت، بعدما أمسك بالقاتل ناج آخر، رمى هايل جنحاوي السلاح عن زادا ثم ولى خارجًا قبل أن يفقد الوعي جراء هول ما وقع.

قبل 11 يومًا من انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من غزة، قرر زادا تنفيذ عملية انتقامية ضد الفلسطينيين، كان عضوًا في جماعة "كفار بتوح" المستوطنة المناصرة لطرد العرب من إسرائيل، لم يجد زادا أفضل من شفا عمرو المدينة المركزية لتواجد العرب في شمال فلسطين المحتلة، ليدب الذعر في نحو 30 ألف نسمة كانوا يسكنون المكان حينها، ارتدى ذو التاسعة عشر عامًا بدلته العسكرية، حمل بندقية من نوع M16، ثم استقل الحافلة المنطلقة من حيفا صوب شفا عمرو، وعند المحطة الأخيرة فعل فعلته.

1

في تلك اللحظات التي نجا فيها بديعة وهايل من الموت، تجمهر أهالي شفا عمرو، انقضوا على الحافلة، أوسعوا القاتل ضربًا وحضرت الشرطة، لكن ثمة وقت مفقود من حينها، فقط عرفت النهاية بالعثور على الجندي الإسرائيلي مرتكب المجزرة قتيلاً في "باص 165".

قيل إن أهالي شفا عمرو انتقموا بأيديهم من القاتل، الذي وصفته حكومة آرئيل شارون حينها بـ"الإرهابي". لم يعبأ الأهالي لمصيره، أخذتهم الصدمة بما حدث، ساد الغضب وقت تشيع جثامين الضحايا، بكت المدينة بكافة أطيافها، فالجنائز خرجت من مسجد وكنيسة، طالبوا بمحاسبة المجرم حتى إن مات، فمن ورائه المخطط والمحرض دومًا على العرب المتمسكين بمكانهم في الأراضي المحتلة. ما أراد الفلسطينيون أن تمر الواقعة مثل كثير سبقها وتغلق القضية ويطلق سراح الجاني، لكن ما تخيلوا أبدًا أن يصبحوا محل الجناة.

2

بعد عشرة أشهر من الواقعة، وفي جوف الليل، تحركت القوات الإسرائيلية صوب شفا عمرو، ألقت القبض على العشرات من الأهالي، أبقت على 12 منهم ثم قدم 7 إلى المحاكمة بتهمة قتل ناتان زادا. كاد أن يجن جنون الفلسطينيين خاصة أسر الضحايا، انقلبت الدفة، من المطالبة بمحاكمة المحتل إلى أن يحاكم المحتل ذاته الضحية.

لم تحاكم إسرائيل يومًا على جرائمها إزاء الفلسطينيين، قادة مجازر الأمس تقلدوا المناصب، ثم جلسوا للتفاوض ودعوا للسلام، أما صغار المعتدين فالتغاضي عن فعلهم أو التوبيخ على أقصى تقدير دومًا ما يكون رد الفعل، وقد رصد مركز مساواة لحقوق المواطنين العرب في إسرائيل، منذ عام 2000 حتى الآن، 59 اسمًا قتلوا على أيدي رجال جيش وشرطة أو مستوطنين إسرائيلين، وأغلقت ملفات قضيتهم أو لم يُفتح فيها تحقيق من الأساس، كان آخرهم إياد الحلاق، الشاب من ذوي الاحتياجات الخاصة الذي قتل في 30 مايو 2020، قرب باب الأسباط في القدس على أحد الحواجز.

منذ اللحظة الأولى لاتهام شباب شفا عمرو، أدرك الجميع أن جولة جديدة في معركة البقاء فرضت عليهم لزم خوضها، تضامن الأهالي مع المتهمين، أثناء اعتقالهم وإقامتهم الجبرية، صارت المدينة العربية سجنًا لسبعة من أبنائها، لا يُعرف إلى اليوم سبب إتهامهم دون غيرهم، خاصة أن منهم مَن جاء بعد الحدث مثل جميل صفوري الرجل الأربعيني، الذي عاد إلى منزله ليجد جندي إسرائيليًا مقتولاً وهو بين المتهمين.

3

امتدت القضية لأعوام، شهدت كل ما يخالف العقل، يقول سراي خورية أحد المحامين الخمسة الذين دافعوا عن المتهمين" قعدنا فترة طويلة جدًا حتى نحصل على ملف القضية. كان في مواد سرية كثيرة أُمر بإخفائها". ضاعت الملفات وأشرطة الكاميرات، بدى الظلم جليًا إلا في هوية المتهمين، حلت المساواة بين أبناء المدينة ذات التنوع الطائفي "المتهمين 3 مسلمين و3 مسيحيين و2 دروز".

انقلبت حياة المتهمين رأسا على عقب، 8 أعوام حُرم فيها سبعة فلسطينيون من مغادرة مدينتهم لأي سبب، ورغم الألم كانت المحاكمة الممتدة فرصة لإسماع صوت العرب المقيمين في الأراضي المحتلة، المعرفة بأحوالهم، وأن ثمة فلسطينيون هنا يحاربون، وليس كما يروج عنهم بأنهم باعوا الوطن، إنما وجودهم شوكة في حلق الاحتلال.

في ساحة المحكمة يجلس الفلسطينيون السبعة في صمود، من ورائهم جموع أهالي شفا عمرو، لا يفارقونهم كل جلسة، يعلنون الإضراب ويهتفون بالحرية، يحملونهم فوق الأعناق. استمر الحال حتى الذكرى الثامنة للمجزرة، قبل أسبوع من الميعاد، تحديدًا في 29 يوليو 2013، عقد القضاء المركزي لحيفا جلسة النطق بالحكم، في 465 صفحة جاء القرار ببراءة أحد السبعة، وأدين الآخرين ليس بقتل ناتان زاده، بل المحاولة والتخريب ومنع الشرطة من أداء عملها، وكُتب عليهم الاحتجاز لمدة تتراوح ما بين 11 شهرًا وعامين.

4

شعر جميل صفوري بالظلم للمرة الثانية، كانت الأولى حين وقعت المجزرة بحق جيرانه في شفا عمرو، والأخرى في ذلك اليوم، بات عليه أن يضيع عامين آخرين من عمره ويترك أبنائه، ويغيبه السجن فقط لأنه عربي، إلا أنه أبدًا ما تجهم وكذلك رفاقه.

سلم الشباب أنفسهم، وتُرك لهم المجال لوداع الأهل والأحباب، ليضاف مشهد عجائبي إلى خضم ما جرى؛ لملم الفلسطينيون الأربعة ملابسهم واحتياجاتهم، غادروا منازلهم رفقة ذويهم وأصدقائهم، تلاحمت الدموع والابتسامات، تركوا مكانهم في عِزة تذهل منها الأبصار، لا خوف ولا حزن، يوزعون الصمود، ومن حولهم يصفق المودعون، يحيونهم تحية الأبطال.

رحل المتهمون كأنما يتوجهون في سفر يطول لعامين، فيما كانوا يسلكون الطريق نحو النفي والعزلة، لم يكتف الاحتلال بمحاكمة الضحية بل تعمد أن يواصلوا تجرع المشقة، إذ نقلهم إلى سجن بئر السبع، مما يعني قطع الأهالي نحو 200 كيلو مترًا لزيارة ذويهم.

أغلقت المحكمة الإسرائيلية قضية شفا عمرو، إلا أن أهالي المدينة الفلسطينية لم يغلقوها يومًا، نصبوا تذكارًا للشهداء، تكاتفوا مع أهالي المسجونين، تمسكوا أكثر بالبقاء، تتعالى أصواتهم كل عام بأن إسرائيل لا تعرف العدالة، تُذكر بديعة بما حدث، ويكمل صفوري الحكاية بما قضاه ظلمًا في السجن، لا يتباكون، إنما ينسجون مع كل فلسطيني رواية لا ترى سوى وطن محرر ومحاكمة يستقيم فيها الميزان، ويوضع فيها المحتل يومًا خلف القضبان.

المصادر

- مقابلات نُشرت مع الناجين والمتهمين.

- تغطية الواقعة في الصحف ووسائل الإعلام حلينها.

- السلسلة الوثائقية أصحاب البلاد للإعلامية روان الضامن.

اقرأ أيضًا:

هل أراك؟| (1).. "حصّادين" الأرض المقدسة (بروفايل)

هل أراك؟| (2).. عيون قارة الفلسطينية (بروفايل)

هل أراك؟| (3).. زارعو الألغام في سوق حيفا (بروفايل)

هل أراك؟| (4).. يوم أن حملت مُعلمة فلسطينية السلاح (بروفايل)

هل أراك؟| (5).. الثلاثاء الأحمر في سجن عكا (بروفايل)

هل أراك؟| (6).. ليلة عيد في ديار فلسطين (بروفايل)

هل أراك؟| (7).. مَوطني (بروفايل)

هل أراك؟| (8).. رسالة بريطانية: ليس لإسرائيل صديق (بروفايل)

هل أراك؟| (9).. معركة الأرض (بروفايل)

فيديو قد يعجبك: