إعلان

هل أراك؟| (7).. مَوطني (بروفايل)

08:59 م الجمعة 14 أغسطس 2020

مواطن فلسطيني

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-إشراق أحمد:

صورة رئيسية- عدى دعيبس:

داخل الفصل، يجلس صغار في اليوم الأول للدراسة، يسأل المعلم في محاولة لكسر جمود التواصل "منّ منكم يحفظ النشيد الوطني؟"، يقفز الطفل عبد الرزّاق متحمسًا، يغمض عينيه وينطلق لسانه بما حفظ عبر الإذاعة الوطنية الجزائرية، رفع الطالب صوته في اندماج تام مع الكلمات "موطني الجلال والجمال والسناء والبهاء في رُباك..". لم ينتبه عبد الرازّق إلا والمعلم يوقفه "هذا نشيد فلسطين السابق. أنا أقصد النشيد الجزائري".

35 عامًا انقضت على ذلك اليوم، ولا ينسى الكاتب الجزائري عبد الرزاق بُوَكبة أثر ما سمعه في برنامج "صوت فلسطين" في الثمانينيات، لم تكن تحمل كلمات النشيد إشارة صريحة تخبره عن أي بلد تتحدث، فرأى فيها موطنه، ولعل هذا ما أراده الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان حين نظم قصيدته "موطني" في ثلاثينيات القرن الماضي.

كتب طوقان عن موطنه، حلمِه لمكان ألفه، انتمى إليه ووجد فيه أواصله، بتلك البساطة يريد أن يجده سالمًا منعمًا وغانمًا مكرمًا، لكنها البساطة العصية على التحقيق.

ما كانت النكبة حلت رسميًا حين أخرج طوقان كلماته، لكن مَن عاش على أرض فلسطين عرف أن ثمة شر يُحاك؛ الاحتلال قائم بوجود القوات البريطانية، وعصبة الأمم أصدرت صك الانتداب عام 1922. رأى طوقان بعينيه كل شيء، في مدينته نابلس وحينما ارتحل إلى القدس من أجل الدراسة الثانوية، عايش ثورة الفلسطينيين المستمرة وهجرات اليهود المتسللين، وعرف معنى الاغتراب قبل أن يُفرض، فحينما غادر لاستكمال تعليمه الجامعي في لبنان، صحب الوطن في حقيبته لمدة ست أعوام.

في بيروت خرجت كلمات "موطني" بينما يعمل طوقان أستاذًا في الجامعة الأمريكية ما بين 1930 و1933، تشارك ابن نابلس الهم مع ملحنين من سكان حي الأشرفية، هما محمد وأحمد فليفل، كان لبنان هو الآخر واقعًا تحت سطوة الاحتلال الفرنسي، فعَبر الشاعر الفلسطيني بالكلمات ومنحها الموسيقيان اللبنانيان لحنًا شجيًا، لم يكن هناك أفضل ليكون نشيدًا وطنيًا لفلسطين منذ عام 1934.

سطر طوقان ما يعرفه عن الأوطان، أينما كان مكانها، رفض الامتهان، كثرة التفاوض وقت الحاجة لفعل حاسم، علم أن الحياة في واقع مزري لا يعني قبولها، إنما هو ارتضاء بالوطن وصبر عليه، لكن هذا لا يُلجم الأفواه عن ترديد "لا نريد ذلنا المؤبدا وعيشنا المنكدا"، ولا يثني الإرادة عن إيجاد السبيل للنجاة..

بين عشرات القصائد التي كتبها طوقان، عبرت "موطني" الحدود والزمان، طافت معه في لبنان، وعند عودته للتدريس في نابلس، ووقت أن غادر مُعلمًا في بغداد، بل وتجاوزت شخصه ووجوده وأي متغيرات؛ رحل الشاعر الفلسطيني 2 مايو 1941، وقامت منظمة التحرير بتغيير النشيد الوطني الفلسطيني إلى "فدائي" عام 1972، إلا أن كلمات "موطني" بقيت حاضرة.

1

سافرت قصيدة طوقان شرقًا وغربًا، سُمعت في الشتات وعلى أعتاب المخيمات، مست القلوب الأسيرة، ووجدت مستقرًا جديدًا، في العراق بعد دخول القوات الأمريكية، عام ٢٠٠٣، أصبحت النشيد الوطني العراقي بعد قصيدة "أرض الفراتين"، كأنما التغني ب"موطني" ترنيمة تسكن الأرض المحتلة، لكنها تظل طليقة.

على أنغام حماسية رصينة وأخرى تحمل الشجن، برنة هاتف محمول تضج في الأرجاء، تتردد "موطني"، كُل يلمسها بطريقته، هذا يكتب إشعارًا مع ذبذبات رابط صوتي يتغنى بالكلمات، يخبر الجميع أنها تمثل "سوريا"، وذاك يعلق "موطني روحي مصر"، وتلك فتاة عراقية تتوسط مظاهرات خرجت في الميادين مطالبة بوطن متحرر من الفساد، تحمل الكمان مطلقة نغمة العناد "الشباب لن يمل همه أن يستقل أو يبيد"، وفي لبنان، لم تجد فرقة الكشافة وسط ركام تفجير مرفأ بيروت، ما تعبر به وتربط على قلوب المكلومين سوى التذكير بآمالهم عن الموطن الهانيء عبر عزف كلمات طوقان..

يقال إن الوطن أينما وجد الشخص أمانه، سكنه واستقراره، ودون ذلك فالبقاء فيه جنون، لكن طوقان رآه محل ارتياح القلب وإن لم يجد الجسد راحة، فلا عجب من لاجيء يغمض عينيه على صورة ديار تلازم حكاياته، وآخر يسارع بالرجوع إلى ركام منزله بعد خروج "داعش" وإن لم يأمن القصف الجوي، وذاك المهاجر مضطرًا للبحث عن "لقمة العيش"، يلعن أيام قضاها في بلده إنما لا يرتضي له الذل. لا منطق لهم جميعًا سوى أن "واجب من الوفا يهزنا".

العام الماضي، وقف جمع من الطلاب والأساتذة الفلسطينيين في ساحة جامعة "تل أبيب"، يُذكرون أنفسهم بما حل من نكبة قبل 71 عامًا، يضع البعض يديه محل القلب في وضع القسم، تردد الألسن في خشوع "نستقي من الردى ولن نكون للعدى كالعبيد". يحفظ الكبير والصغير داخل فلسطين النشيد السابق، لا يعتبرونه كذلك، هو الأقرب وإن لم يحمل اسم بلدهم المحتل خلاف النشيد الحالي، يكفيهم أنه يعبر عن حلمهم المتوارث جيلاً تلو الآخر.

قبل أكثر من 80 عامًا، حلم طوقان بوطن سالم من الاحتلال البريطاني، لم يشهد النكبة بإعلان دولة إسرائيل، لم يعرف عن "التطبيع" والدعوة للتعايش مع المحتل الصهيوني، ما علم بالتقسيم ومخططات ضم الضفة الغربية، رحل وبنفسه أمنية واحدة، يرددها بعده الآلاف في أوطان مختلفة لعلهم يبلغوها "هل أراك في عُلاك؟".

المصادر:

· الموسوعة الفلسطينية

· موقع رحلات فلسطينية

اقرأ ايضًا:

هل أراك؟| (1).. "حصّادين" الأرض المقدسة (بروفايل)

هل أراك؟| (2).. كانت تسمى "عيون قارة" الفلسطينية (بروفايل)

هل أراك؟| (3).. زارعو الألغام في سوق حيفا (بروفايل)

هل أراك؟| (4).. يوم أن حملت مُعلمة فلسطينية السلاح (بروفايل)

هل أراك؟| (5).. الثلاثاء الأحمر في سجن عكا (بروفايل)

هل أراك؟| (6).. ليلة عيد في ديار فلسطين (بروفايل)

فيديو قد يعجبك: