إعلان

"لن أترك ريو".. حكاية عارض أفلام "السينما المهجورة"

05:49 م الخميس 06 يونيو 2019

محمد العملاوي

كتابة – تصوير : مارينا ميلاد

شتاء عام 1966،

كان فيلم سعاد حسني الجديد "صغيرة على الحب" يُعرض في السينمات، وسط إقبال كثيف من الجمهور. لذا باتت مُهمة محمد صَعبة، وهو الشاب العشريني الذي يبدأ بهذا الفيلم عمله عارضًا لأفلام سينما ريو الشهيرة ببورسعيد.

يقف محمد بمفرده داخل الكابينة الضيقة الموجودة بالأعلى في مواجهة الشاشة من الناحية الأخرى، وبها ماكينة العرض القديمة التي ينعكس من خلالها الفيلم. يطل، وهو يشعر بتوتر شديد، من شباكه الصغير ليتابع سير الفيلم على الشاشة، ملتزمًا بتعليمات "دينو"، آملًا ألا يحدث خطأ واحد حتى نهاية العرض.

ــــــــــــــــــ

قبل ذلك بسنوات قليلة،

أحب محمد السينما، تحديدًا "ريو"، واعتاد وهو في سن الـ12 أو الـ13 عامًا أن يذهب إليها بعد أن ينهي عمله في تصليح الدراجات الإيطالية بأحد الأكشاك، ليشاهد أفلام الـ"كاو بوي"(Cow boy) الأمريكية الشهيرة، رغم أن السينما الواقعة في شارع الجمهورية بالحي الأفرنجي، ليست قريبة من بيته بمنطقة العرب، كما أن إخوته السبعة لم يشاركه أي منهم حب السينما.

صار محمد مقربًا من العاملين بـ"ريو". ولأنه لم يُكمل تعليمه بعد الصف الرابع الابتدائي، وعَمل في تصليح الدراجات مثل أبيه، طلب منهم أن يصبح عاملًا للنظافة بالسينما بجانب عمله، وافقوا، فاعتاد أن يذهب إلى كشكه في السابعة صباحًا، يليه السينما في الخامسة مساءً ويظل بها حتى منتصف الليل، لكنه لم يستمر بهذا العمل وقتًا طويلًا حتى حدث له تحول لم يتوقعه.

احتاجت إليه السينما للعمل كـ"أجلسيه" (المسؤول عن إرشاد الجمهور إلى أماكنهم بالصالة)، وقتها توطدت علاقته بـ"دينو"، الرجل المالطي العجوز الذي كان يعمل بـ"ريو" عارضًا لأفلامها، ويعيش في بورسعيد مع والدته وزوجته، تعلم محمد منه كل شيء عن استخدام ماكينة العرض، وضع الفحم بها لتشغيلها، وتصليح الأعطال، وضبط المرآة، وترتيب الفيلم.

توفى "دينو"، فجاء محمد بدلًا منه، اعترض والده ووالدته وصديقه المقرب "يوسف" على هذا العمل، رأوه بلا فائدة، لكنه لم يسمع لهم، وأصبحت كابينة العرض هي المكان "الأهم" في حياته، المكان الذي ينسى فيه كل شيء ويجد نفسه داخله.

تتشابه قصة الفيلم الشهير "سينما براديسو" إلى حد كبير مع قصة دينو، ومحمد. فيحكي الفيلم الإيطالي عن شخصية ألفريدو، عارض الأفلام في السينما القديمة، والذي عَلم كل شيء عن مهنته للفتى الصغير "توتو"، عندما وجده مغرمًا بها.

cinema pardiso

ظل محمد محتفظًا دائمًا بنصيحة دينو له: " لا ترد إذا أهانك أحد من الجمهور، وأحذر من قطع أي مشهد من الفيلم لأنهم سيعتبرونها سرقة".

ما نصح به "دينو" أدركه محمد عندما وجه الجمهور هتافًا ضده لأول مرة في إحدى الحفلات: "حرامي.. حرامي"، ذلك حين توقف الفيلم بسبب تغيير محمد للفصول الموضوعة على ماكينة العرض، وتكررت مرات أخرى عندما يحدث أي عُطل. فعرف محمد أن الجمهور يفسر توقف الفيلم – لأي سبب - على أنه قطع من الفيلم وسرقة من الرجل الواقف في تلك الكابينة!

لذلك يحرص قبل بدء أية حفلة، والتي كان يعرض فيها ثلاثة أفلام: اثنان أجنبي وواحد عربي، أن يتأكد من بداية الفيلم، نهاية الفصل، نهاية الفيلم، حتى لا ينقطع أي مشهد.

كان محمد يعمل على ماكينتي عرض في وقت واحد حتى لا يتوقف الفيلم أبدًا؛ فبمجرد انتهاء فصل يضع الآخر على الماكينة الثانية، لكن بعد تعطل إحداهما، تبقى لديه إحداها، لابد أن يقف على الأقل مرة واحدة يبدل فيها الفصول.

يحاول محمد أن يتحاشى غضب الجمهور، لذلك فأصعب المواقف بالنسبة له حين يحدث أي عطل في ماكينة العرض، عليه أن يحله سريعًا ليوقف صراخهم عليه، وحتى لا يصل الأمر إلى تكسير السينما.

صار صديقًا للعديد من رواد السينما، لكن ستنقطع سبل التواصل بينهم فيما بعد مع مرور الوقت.

أهم شيء بالنسبة لي إن الجمهور يكون مستمتع بالعرض، مفتكرش إني في يوم اتفرجت على فيلم كامل هنا في السينما.. أنا بَفرج بس مابتفرجش..

لم تغلق "ريو" أبوابها حتى في وقت حرب 1967 – 1973، يتذكر محمد أن الضباط والعساكر أنفسهم كانوا يأتون للسينما.

Photos 1  (1)

إبريل 2019

يجلس محمد العملاوي، الذي يبلغ عمره الآن 73 عامًا، على باب السينما، لا شئ يفعله هنا إلا الجلوس. فقد مرت السنوات على "ريو"؛ أُهملت، هجرها جمهورها واختفت طوابيرهم، دخل "الديجتال" السينمات بينما بقيت هي بماكينة عرض متهالكة، تعمل الآن بالكهرباء وليس الفحم، لكن ليس لدى محمد سوى 6 أفلام قديمة يختار من بينها ليعرضه عليها إذا جاء له أي شخص، وفي الأغلب لا يأتي.

لم يكن جمهور "ريو" انصرف عنها تمامًا قبل 6 سنوات مضت، كان هناك أشخاص يأتون ويدفعون تذكرة بـ 2.5 جنيه للصالة و4 جنيهات للبلكون، لكن "ريو" أصبحت لا تجد من يشتري تذاكرها التي وصلت لـ15 جنيهًا للفئة الأولى و20 للثانية.

يرحب "عم محمد" – كما يُنادى من الجالسين بجواره – بيوسف سيدهم (53 سنة)، الذي وصل للتو. يوسف هو صديقه المقرب الذي عارض عمله في البداية، وسافر لزمن طويل، ثم عاد ووجد محمد في نفس المكان.

يذهب محمد ليحضر الشاي ليوسف، وهو الوحيد الذي يشاركه جلساته: "بعد ما رجعت كان يقول لي تعالى أفرجك على الماكينة، ويشرح لي طريقة الشغل لحد ما حببني فيها، لدرجة أنه في يوم كان تعبان وأنا نزلت شغلت السينما بدل منه".

محمد لم يترك هذه الكابينة أبدًا وحتى بعد أن عمل خفيرًا لأحد المستشفيات. تخلى مع الوقت عن أشياء عدة في حياته منها هوايته المفضلة "الصيد"، التي كان يداوم على فعلها كل أسبوع، كما انفصل عن زوجته، لكن ما بقى هو حبه لمهنته التي لم يعد أحد شغوفا بها غيره، حتى أن ابنه الوحيد "حمادة" (30 عامًا)، والذي كان يذهب معه دائمًا ويساعده في لَف الأفلام، اختار أن يعمل بأحد مقاهي البحر، ولم ينجذب إلى عمل والده في أي وقت.

Photos 1  (3)

لا يهتم الرجل بالاحتفاظ بصوره القديمة أو ذكرى من فنان أو شخصية عامة جاءت لعندهم. فلا يعرف في حياته إلا الكابينة وماكينة العرض، لذلك مازال يرفض أن يستمع لنصيحة ابنه المتكررة بعدم الذهاب إلى مكان غير مجدِ.

لكن لماذا لم يترك محمد العملاوي "ريو"؟ لماذا لا يزال يأتي كل يوم إلى سينما "شبه مهجورة" لا تدر عليه دخلًا؟

ربما جاءت الإجابة في ذلك الفيلم الإيطالي أيضًا على لسان "ألفريدو": "ليس هناك فهم فيما يتعلق بالمشاعر":

"هروح فين؟، أنا لو مجتش يوم بحس إني مخنوق، في شيء ناقصني. يمكن مُلاك السينما يهتموا بيها ونعرض أفلام جديدة. يمكن في يوم الجمهور يرجع تاني"..

فيديو قد يعجبك: