إعلان

الدول العظمى.. يد تقتل المدنيين وأخرى ترسل المساعدات (تقرير)

03:57 م الأحد 16 أكتوبر 2016

يد تقتل المدنيين

كتبت-دعاء الفولي:

منذ شهر ونصف جاء سعيد إسماعيل من اليمن إلى مصر. مصطحبا زوجته وولديه؛ محمد ذو العشر سنوات، وآسيا ذات الثمانية. لم تكن زيارة العائلة إلا هربا من القصف المتوالي على صنعاء، إذ أُصيب ابن إسماعيل بانهيار عصبي، احتاج على إثره للعلاج النفسي. وفيما مازال الرجل الثلاثيني يستنشق هواءً لا تملأه رائحة الدماء، يزداد عدد القتلى في العاصمة اليمنية، ويفور غضب مدنيي اليمن على المملكة العربية السعودية في الوقت الذي يأمر الملك سلمان بن عبد العزيز بعلاج الجرحى على حساب المملكة. تبدأ الحروب حينما يشاء من روّجوا لها. فإن لم يكن نتيجة تقارير تزعم "وجود أسلحة نووية" في العراق، فبسبب الجماعات الإرهابية، كروسيا وسوريا، والسعودية واليمن. وبينما يسحق القتال المدنيين فينجو بعضهم وتنتهي حياة آخرون، تُرسل الدولة الضالعة في الحرب مساعدات لهم، أو تُروج لذلك تعبيرا عن أسفها.

الخامس والعشرون من مارس لعام 2015، دلفت سندس أحمد منزلها على أكف السعادة، بعدما فازت مدرستها الكائنة بالعاصمة اليمنية صنعاء، بالمركز الأول لإحدى المسابقات تعليمية. ظلت تفكر في شكل الزيّ الذي تريد ارتدائه بحفل التخرج من الثانوية، منتظرة قدوم الخيّاطة باليوم التالي لأخذ المقاسات. في تلك الليلة تحديدا نامت الفتاة قريرة العين "واستيقظت في الثانية صباحا على يد أخى تهزني بعنف وصوته يرتعش قائلا إن السعودية تقصفنا بالصواريخ".

لم تكن تحسب سندس أنها ستعيش حتى تلك اللحظة أصلا. دهس الموت رقبتها وأسرتها مرارا "شعور الاقتراب من الموت يتجدد كل يوم.. ولا ملجأ لنا سوى نزول دور أرضي والابتعاد عن الشبابيك والانتظار". 

1

بشكل غير مباشر أقرت السعودية بمسئوليتها عن حادث صنعاء الأخير -كما كتب موقع بي بي سي- إذ تم قصف صالة عزاء بعدة صواريخ، ما أسفر عن مقتل حوالي 140 شخص. كما وافقت المملكة على إجراء تحقيق في الأمر. وأعلنت وكالة الأنباء السعودية أن الملك أمر بنقل الحالات الحرجة خارج اليمن ليتم علاجها. ورغم أن الحادث لم يكن قريبا من منزل أحمد لكن بعض أصدقائها شيّعوا ذويهم فيه.

عشرة آلاف قتيل هو العدد الذي أعلنه جيمي ماغولدريك، منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة. فقال إن تلك هي حصيلة 18 شهرا منذ بدء ضربات التحالف العربي على اليمن وحتى أغسطس المنصرم، فيما تم تشريد 3 ملايين يمني، وأُجبر نحو 200 ألف للبحث عن مأوى خارج البلاد. على العكس من ذلك كان فرار أسرة إسماعيل مؤقتا، فهو ينوي العودة مرة أخرى لبلده.

"نواجه أقبح عدو وأكثرهم غطرسة في تاريخ البشرية، بيقتل القتيل ويمشي في جنازته.. لو كانت السعودية مهتمة بنّا لرفعت عنّا الحظر".. تلك الخاطرة تمر بذهن الفتاة اليمنية يوميا، تكتبها على مواقع التواصل الاجتماعي أو ترويها لمصراوي، فهي لا تستوعب منطق المساعدات وعلاج الجرحى في ظل القتل، حتى وإن كان بغرض القضاء على "الجماعات المتطرفة".

2

يعجز لسان إسماعيل عن سرد ما يحدث في صنعاء حيث يعيش. فالقصف هناك لا يُجسد المشكلة كلها "الناس ما بتلاقي الطعام بسبب الحصار".في كل شبر يسير فيه الرجل ذو الاثنين والثلاثين عاما يرى ما يُرهقه، غير أن شيئا لا يضاهي تلك المرة عندما فصلته عدة أمتار عن موت مُحتم. كان يتحرك بسيارته منذ عام، فرأى انفجار جبل نقم "مثل يوم القيامة.. الناس بتجري من البيوت، السيدات ما لحقوا يستروا أنفسهم، الجميع كاد أن يجن". لم يعرف إسماعيل كيف يتصرف، استقل السيارة محاولا الابتعاد "بس فوجئت بخمسين شخص بيقفزوا على السيارة وبيصرخوا فيا عشان أهرب". رفع الرجل صوته، حرك ذراعيه ليُخبرهم أن السيارة لن تتحمل العدد، لكن لم يسمعه أحد وسط هيستريا الرعب.

أعلنت الأمم المتحدة في أبريل 2015 عن حصول اليمن على 274 مليون دولار أمريكي من السعودية، ودعم مركز الملك سلمان للإغاثة مشاريع تغذية الأطفال والصحة والتطعيم والإصحاح البيئي والتعليم والدعم النفسي والحماية، حيث استفاد من هذه المساعدات أكثر من 4 ملايين طفل يمني. كما قدم المركز تمويلا لمنظمة اليونيسيف بمبلغ 29.6 مليون دولار أمريكي، وقُدمت بموجبه خدمات طبية وتطعيم وتغذية لأكثر من 500,000 امرأة مرضع وحامل داخل اليمن.

3

حتى الآن مازال إسماعيل يذكر حين استفاق مفزوعا، ليحمل زوجته لأقرب مشفى "وهناك سقط حملها". كانت تلك النتيجة منطقية نسبة للزوج والزوجة "لأنه القصف يبدأ فجأة بأي مكان ودون صفارات تجعلنا نستعد.. زوجتي فقدت حملها نتيجة الهرع اللي بتحس بيه كل شوية". لا تُعني أرقام المساعدات التي تقدمها السعودية الزوج كثيرا، فقط يتمنى العيش بسلام كمدني، دون انتظار وقوع البلاء يوميا.

"كُنت أنادي الله من أسفل الأنقاض"

عشر دقائق فقط. قبعت خلالهم نسيم طوطنجي أسفل الأنقاض. ملايين الأشياء تخطر بذهنها.. الله. ولديها القابعين معها بالمنزل. روسيا التي قصفت مسكنها. حلب حيث تعيش. تتسائل؛ متى سيأتي الدفاع المدني؟، هل ستموت بالداخل؟، من سيبقى بجانب ابنيها إن ظلا على قيد الحياة؟، كيف تزعم روسيا أنها تُرسل مساعدات إنسانية لسوريا، ثم تقتل طائراتها المدنيين؟. عشر دقائق فقط قبل أن تأتي النجدة لتنتشلها، لتولد طوطنجي من جديد مع ولديها.

في يونيو الماضي أصدر المرصد السوري لحقوق الإنسان تقريرا يقول فيه إن عدد ضحايا القصف الروسي على أحياء حلب بلغ 2498 مواطن مدني خلال 9 أشهر. 

4

ستون يوما كانوا قد مروا على بدء الضربات الروسية لحلب قبل أن يعلن وزير الزراعة الروسي ألكسندر تكاتشوف يوم الثلاثاء 3 نوفمبر عن "قيام شركة الحبوب المتحدة بإرسال 100 ألف طن من القمح من الصنف الرابع من الاحتياطات إلى سوريا". كذلك كان لمحافظة دير الزور السورية نصيبا من المساعدات الروسية المزعومة، إذ أعلنت وزارة الدفاع الروسية في يونيو الماضي عن إرسال 18 طنا من المساعدات لها، إضافة لـ 4 أطنان إلى محافظة حماة و5 أطنان إلى مدينة اللاذقية.

في حلب يختلف الوضع. تواصل مصراوي مع أحد القائمين على مؤسسة إغاثة سورية –رفض ذكر اسمه، لينفي أي تصريحات روسية عن وصول مساعدات للداخل "أي معونات تدخل المناطق المحاصرة تجعلنا تحت أيدي النظام لأنه روسيا والنظام يروجون لتلك المساعدات منشان يخفوا جرائمهم". يحاول الرجل ومن مثله من منظمات التأقلم، فبدلا من توزيع 3 صناديق غذائية لكل أسرة، يوزعون نفس الكم لأسرتين. وتشمل "الكارتونة" مُعلبات صغيرة من عدس ورز وفاصوليا ومعكرونة وبرغل وزيت ومربى.

5

رغم الدمار، تُصر طوطنجي على استمرار عملها كمدرسة بحلب، غير أنه لم يعد هناك تقريبا مدارس ولا طلاب، فمع حدوث حوالي 50 غارة يوميا، لا يتجرأ الأهالي على إرسال أولادهم للفصول كي يموتوا.

نجت والدة الطفلين من الموت ثلاث مرات.. مع كل غارة تظل تُخبر نفسها بأنها النهاية. لكن عقلها يأبى، فتبدأ بالنقر على الحجر للفت أنظار المنقذين كما تعلمت بإحدى دورات الدفاع المدني. عقب كل مرة تخرج أقوى لكن أكثر غضبا على روسيا "هي تتكلم عن الإنسانية ولكن العمل شيء مختلف فلن يصلنا منهم إلا القصف والمجازر والدمار والتهجير.. عم نمشي بالشارع ع حجارة وأشلاء ودم".

في أكتوبر الجاري دعت فرنسا في مجلس الأمن إلى التصويت لصالح قرار وقف إطلاق النار بشكل كامل على حلب من قبل روسيا، إلا أن الأخيرة استخدمت حق الفيتو فلم يتم تمرير مشروع القرار . في المقابل ما يزال محمود عوني-ناشط حلبي- يتحرك من منطقة لأخرى لإنقاذ المدنيين "الغارات ما بتتوقف عندنا فإذا أخذ الطيران الروسي وقت مستقطع يبدأ الطيران النظامي". مشاهد مأساوية شاهدها عوني، تبدأ من نقص الغذاء والوقود، وتبلغ ذروتها عندما يقف عاجزا أمام موت الأطفال.

6

"كان نص جسمه الأعلى خارج من الأنقاض.. عم يصرخ.. وما بنقدر نعمل شيء.. والده كان بيصرخ وما بيعرف يطلعه.. ولما جاء الدفاع المدني وأخرجوه لفظ أنفاسه الأخيره بين إيديهم".. مشهد وفاة الطفل محمد حسين الذي حضره عوني بأحد أحياء حلب مازال عالقا بذهنه كأنه أمس، وبالتالي أي حديث روسي عن مساعدات هو عبث بالنسبة له، وكذلك بالنسبة لـطوطنجي التي تقول لمصراوي: "لا نستطيع النوم وفوق هذا الحصار المطبق الأسواق خالية من كل شيء.. نمشي بالشارع ما عاد اسمه شارع.. أي هُدنة ومساعدات التي تروج لها روسيا؟".

المساعدات التي تزعم الدول أنها تقدمها بداية من أمريكا ومرورا بالسعودية او روسيا، ليست "لوجه الله"، حد تعبير نهى بكر، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بل هدفها إما حفظ ماء الوجه أمام العالم، أو كسب مؤيدين على أرض الواقع لصالح الدولة التي تقصف فتضمن إمدادها بمعلومات عن الأرض وقتما تحب.

في المقابر الجماعية..

كان عام 1991 قد بدأ لتوّه حينما شنت 34 دولة حربا ضد العراق، اعتراضا على غزوها للكويت. النسبة الأكبر من القوات المشاركة بتلك الحرب كانت تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وأحدثت قوات التحالف خلال 43 يوما أكثر من 109 ألف غارة جوية، ما أدى لتدمير جزء ضخم من البنية التحتية للعراق، وعقب انتهاء تلك الحرب كان لشهر مارس ميعاد مع انتفاضة ضد نظام صدام حسين، قابلها الرئيس العراقي بقصف المدن المُعارِضة، بطائرات أرسلتها أمريكا.

7

عمره إحدى عشر عاما أو أقل. وضعته قوات صدام حسين أثناء انتفاضة 1991 في سيارة بجانب أجساد أخرى لا يدري كنهها. طريق طويل مُنتهاه لم يكن واضحا. رعب اخترق قلب علي كاظم. حينما علم أنهم يستعدون لإلقائه بمقبرة جماعية. استسلم لهم، قبل أن يأتيه المدد بعدما تعطلت السيارة فأطلقوا سراح النساء والأطفال.

عايش المصور العراقي ذو الأربعة وثلاثين عاما الحربين على بلاده، ونجا من الموت مرارا "مع كل قذيفة كانت تسقط". 

8

مارس 2003 كان موعد العراق مع مأساة جديدة، راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين. إذ سعت امريكا وبريطانيا لغزو أرض الفرات بزعم وجود أسلحة دمار شامل، ورغم تقديم الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريرا ينفي تلك المزاعم لكن الدولتان لم تُغيرا موقفهما، بناء على تقارير أصدرتها أجهزة المخابرات التابعة لهما. حتى أنهما حاولتا الحصول على تشريع من الأمم المتحدة لدخول العراق، لكن مساعيهما فشلت.

عقب الحرب بعامين عاد أحمد الزيدي لبلده. كان في الخامسة عشر ويعرف أبعاد الموقف لكن لا يُدرك مدى فداحته. مع الوقت صارت مشاهد القتل جزء من ذاكرته، خاصة بعدما وصل مدينة الصدر فوجد الجنود الأمريكيون يُلقون زجاجات المياه المملوءة على السيارات المارّة، بغرض المرح فقط، وبينما كان يسمع عن إجراءات تفتيش لا إنسانية، رأى بعينيه أكثر من مرة سيدة يتم تفتيشها بواسطة كلاب بوليسية تابعة للجنود، فيما هم يضحكون.

"العراق في حاجة إلى مساعدة اقتصادية وسياسية وعسكرية كي يتعافى".. هكذا أعلن وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر في إبريل الماضي، طالبا من دول الخليج دعم أمريكا وبريطانيا لإعادة إعمار العراق، لا سيما عقب تحرير مناطق عدة من أيدي تنظيم الدولة الإسلامية. وفي سبتمبر المنصرم أعلنت أمريكا-طبقا لوكالة رويترز- أنها ستمنح العراق مساعدات إنسانية بقيمة 181 مليون دولار متوقعة موجة من النازحين عندما تشن القوات العراقية حملة لاستعادة مدينة الموصل الشمالية من تنظيم الدولة الإسلامية.

ما تفعله أمريكا الآن من سعي لدحض وجود داعش أو إرسال مساعدات يبدو غامضا بالنسبة للبعض "لأنو امريكا هي سبب كل البلاء اللي حل بالعراق منذ 2003" حسبما يقول كاظم، فقد صارت العراق شبه دولة منقسمة بين فرق عدة، ويعتقد الزيدي أن "داعش ما هي إلا صنيعة أمريكية بحتة ليبقى الوجود الأمريكي في العراق".

تبدو مسألة المساعدات وشنّ الحروب، أمرا مُعقدا بالنسبة لأستاذ العلوم السياسية في الأمريكية، فثمة معضلة دائمة بين بدء ضربات جوية لمحاربة إرهابيين كما الحال بداعش، والحفاظ على حيوات المدنيين "لأن المتشددين يقبعون غالبا وسط أحياء المدنيين فالقصف يصيب كلا منهما".

"الحروب على ما تزعم الدول أنه عناصر متشددة يبدو حلا جيدا على المدى القصير" حسبما تقول بكر، لكنها تستطرد أن على المدى البعيد يتم تهجير وقتل المدنيين بدعوى التخلص من الإرهاب واسترجاع قدر من الأرض كما حدث بأجزاء من سوريا ، وستؤدي المزيد من الحروب لخلق المزيد من المتطرفين والمتشددين، الذين يشاهدون بلدانهم تُدمر ولا يجدون سوى العنف للدفاع عنها، كما تُضيف بكر. موضحة أن "كل المآسي الإنسانية الحالية في العراق هي توابع زلزال الغزو الأمريكي البريطاني عام 2003".

9

في العراق، سوريا واليمن يحاول المدنيون استعادة حيواتهم فيَصعُب عليهم ذلك. تُلاحقهم آثارها السلبية أينما ذهبوا، فمنذ أكثر من شهر يبتغي اليمني سعيد إسماعيل العودة بزوجته وولديه لصنعاء، إلا أن غلق المطار يحول دون ذلك. يغمره شعور العجز أمام إرغامه على البقاء هنا، وتحاصره أسئلة ابنه البسيطة "ليش السعودية عم تقصفنا بابا؟ احنا كفار؟ مُشركين؟.. ليش ما إرجع المدرسة زي زمان؟". الكثير من "لماذا" يقولها الطفل دون إجابات جاهزة لدى الوالد.

فيديو قد يعجبك:

لا توجد نتائج