إعلان

كيف أصبح الطرب ملاذا للسوريين للتغلب على ويلات الحرب؟

01:38 م الجمعة 25 ديسمبر 2020

كيف أصبح الطرب ملاذا للسوريين للتغلب على ويلات الح

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

(بي بي سي):

ظل جد همام خيري لسنوات يزرع أرضه ويحرثها مع إخوته وأطفاله على مشارف مدينة حلب السورية، وهو يدندن أغاني الطرب الأصيل مع المذياع، بينما كانوا يقطفون الخيار والباذنجان والطماطم. وكانوا يضعون المذياع بجوار أذن همام، الذي كان رضيعا آنذاك، حتى يهدأ ويكف عن البكاء.

ويقول خيري، الذي أصبح مطربا: "إن الموسيقى تجري مجرى الدم في عروق أهل حلب، وهذا أمر خارج عن إرادتنا". ويحظى الطرب الأصيل، الذي تمتد جذوره لآلاف السنين، بشعبية عريضة في البلدان العربية، وينحدر الكثير من ألمع نجوم الطرب من مصر ولبنان، لكن ما من مكان يحظى فيه الطرب الأصيل بمثل المكانة التي يحظى بها في قلوب ووجدان السوريين، ولا سيما في حلب، مدينة الطرب.

ولا تقل أهمية الطرب الأصيل في حلب عن أهمية موسيقى الجاز في نيوأورليانز أو الموسيقى الكلاسيكية في فيينا. وينشد سلاطين الطرب السوري الموشحات لساعات، بمصاحبة التخت الشرقي، الذي يضم القانون والعود والناي وأحيانا الربابة، وهي أقدم آلة موسيقية في العالم، ويثيرون في نفوس المستمعين حالة من النشوة والطرب.

فالطرب ليس نوعا من الموسيقى فحسب، بل هو حالة وجدانية تعتري المرء عندما تمتلئ نفسه بالانشراح والسرور أو يطرب لسماع شيء يثير النفس. وبينما اشتهرت موسيقى الفادو البرتغالية والبلوز الأمريكية والتانغو الأرجنتينية بأنها تقطر شجنا ولوعة، فإن الطرب الشرقي عرف منذ العصور الوسطى بقدرته على أسر ألباب المستمعين وإثارة مشاعرهم بأشعاره سواء فرحا أو حزنا.

وليس من المستغرب أن تكون حلب مركزا للطرب الشرقي الأصيل، فقد ساعدها موقعها المميز على الطرف الغربي لطريق الحرير في أن تصبح قلب الموسيقى النابض بالحيوية، حيث نهلت الموسيقى العربية من التراث الآرامي والكردي والعراقي والتركي والآسيوي.

وأفرزت هذه المدينة المحاطة باليابسة كوكبة من أشهر سلاطين الطرب في العالم، مثل صباح فخري وبكري الكردي وصبري مدلل، ولا تزال تحتفط بهذه السمعة والشغف بالطرب الأصيل. ويفخر أهل حلب بأنهم حماة التراث، ولا عجب فقد حافظوا على الموشحات الأندلسية لأكثر من ألف عام. في حين تشهد القلعة الشاهقة في المدينة والجامع الكبير على دورها البارز في الدفاع عن الثقافة الإسلامية.

واليوم، استحقت حلب بفضل إرثها الموسيقي العريق عن جدارة لقب "أم الطرب". وكما أصبحت مدينة ناشفيل وجهة لمحبي موسيقى الريف الأمريكي وبرلين وجهة لهواة الموسيقى الإلكترونية، كذلك يدرك شيوخ الطرب أنهم لن يحققوا الشهرة والنجومية إلا إذا نالوا استحسان المستمعين في حلب من أصحاب الذوق الرفيع.

وتقول لبانة القنطار، المطربة ومغنية الأوبرا السورية: "إن حلب عالم خاص، يعتز أهلها بتراثهم، وبطبيعتهم الأكثر تحفظا. وقد ترسخ الطرب والموشحات في وجدانهم. ويمتاز الجمهور في حلب بأنه ذواق للفن، ولهذا أحب أن أحيي حفلات هناك".

وتبدأ حفلات الطرب في حلب بقصيدة عن حلب، تشيد بدورها في حفظ التراث الموسيقي، وبعدها تتملك المطربين نشوة الطرب، وينشدون الموشحات والقدود الحلبية. وعندما تبدأ تقاسيم العود والقانون، يتمايل المنشد طربا ويرفع عقيرته بالغناء وينوّع المقامات الموسيقية، ثم يتماهى مع الجمهور ويغريهم للتفاعل معه.

لكن الطرب في حلب، لا يمارسه المطربون المتدربون فحسب، بل أصبح جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية وكأن المدينة تسير على وقع نغمات الطرب.

ويقول خيري: "لا يزال التجار في أسواق مدينة حلب القديمة، سواء كانوا يبيعون التوابل أو الأقمشة، يحفظون الموشحات عن ظهر قلب، وقد يتجمعون للغناء أثناء إعداد وجبة الغداء، وينشدون أبيات من الموشحات الشهيرة مثل "ملكت فؤادي" في متاجرهم لجذب الزبائن".

وعلى الرغم من أن خيري أرغم على النزوح إلى باريس في عام 2013 مع اشتداد الحرب الأهلية، فإنه ينوي العودة إلى حلب والاستقرار فيها يوما ما. وعن زيارته القصيرة لحلب العام الحالي، يقول: "كنت أحتاج لهذه الطاقة، فيكفيني أسبوعين فقط لشحن طاقتي الإبداعية لعشر سنوات. ربما قد هربت من حلب منذ سبع سنوات، لكنها لا تزال تسكن في فؤادي".

ومنذ مطلع القرن العشرين، تقام جلسات الطرب الليلية في منازل الأثرياء من عشاق الموسيقى. وتتيح هذه الجلسات للجمهور التفاعل مع المنشدين والوصول إلى حالة وجدانية فريدة، توصف أحيانا بأنها ثمالة الطرب.

وفي كتابه "بين أشجار الياسمين: الموسيقى والحداثة في سوريا المعاصرة"، وصف جوناثان شانون، الذي عاش سنوات عديدة في حلب، الطرب الحلبي بأنه "أحد الملامح الرئيسية للحياة الاجتماعية في حلب". وتقام الحفلات الموسيقية في مختلف أنحاء المدينة في معظم عطلات نهاية الأسبوع، وينشد المطربون الموشحات والقدود في الأعراس كما ينشدونها في الملاهي الليلية.

ويجسد الطرب الحلبي البيئة الصوتية في المدينة، فالقصائد الحديثة تضم بين ثناياها تغريد البلابل والكروان وحفيف أغصان أشجار الصفصاف والياسمين في المنطقة.

وبفضل قوة تأثير الطرب الأصيل على المستمعين في حلب، أفردت المؤلفة هيلين راسيل فصلا عن سوريا في كتابها "أطلس السعادة: الأسرار العالمية للسعادة". ووصفت فيه الطرب بأنه "إحدى الضروريات الأساسية للحياة" في أوقات الأزمات. وتقول راسيل إن 30 دقيقة من الطرب كفيلة بأن تأخذ المستمعين في رحلة للتطهير النفسي. إذ ينشد المطربون قصائد عاطفية ودينية مفعمة بالأحاسيس تمس مشاعر المستمعين. وتصف حضور هذه الحفلات بأن له "تأثير السحر".

ويقول خيري: "إن موسيقى وأشعار الموشحات والقدود تطهر النفس من المشاعر السلبية، وتشفي العليل".

ويقول شانون: "إن الطرب من الأمور المبهجة في سوريا، وأحد أسباب السعادة بالتأكيد، رغم قتامة المشهد السياسي. إذ يلجأ الناس إلى المذياع أو مشغل الموسيقى ويسترخون وينصتون إلى ما يخفف عنهم همومهم ويبعث السكينة في نفوسهم. فهذا الطرب يذكرهم بإرثهم وثقافتهم التي صمدت لآلاف السنين، حتى لو كانوا يعانون اليوم من آلام حرب دامت 10 سنوات أو حكم ديكتاتوري يجثم على صدورهم منذ 50 عاما".

ويرى شانون أنه لا يمكن اختزال الطرب في أغنية أو موسيقى، بل قد يدل على ثقافة شفوية بشكل عام. ويضيف: "فعندما يستمع الجمهور لمقطع رائع من القصيدة قد ينفعلون مع المطرب ويرددون الآهات وعبارات الثناء والإعجاب، ولا سيما إذا "تسلطن" المطرب، أي استغرق بكل حواسه في الغناء وعندها يأسر ألباب الجمهور ويسلب عقولهم".

وعلى الرغم من أن تقديرات الأمم المتحدة، تشير إلى نزوح 12 مليون سوري داخل سوريا وخارجها، لا تزال البلاد تحتفظ بإرثها الموسيقي الثري. وفي عام 2017، دشنت السلطات السورية مبادرة لترشيح حلب في برنامج "مدينة الموسيقى" التابع لمنظمة اليونيسكو. وفي العام نفسه، أقيم على مدرج قلعة حلب، أول حفل للطرب الأصيل منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011.

وبعد أن نقل الكثير من السوريين تراث الطرب الأصيل إلى الخارج، ظهر جيل جديد من عشاقه حول العالم، الذين تعرفوا على هذا الغناء العربي الأصيل. وليس من المستغرب أن تجد الموسيقى السورية طريقها إلى العالمية، فبعض الأدلة تشير إلى أن هذا البلد شهد مولد أول أغنية على وجه الأرض. لكن رواج الطرب السوري قد يذكرنا بأن الثقافة قد تزدهر حتى في أحلك الأوقات وقد تصبح أداة للصمود.

ويقول خيري: "صحيح أن نصف حلب دمرت الآن، لكنها ستظل حلب بجمهورها الذواق وفنانيها المبدعين الموهوبين وحيويتها منقطعة النظير".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: