إعلان

العراق وداعش.. حكاية انتقام لن تنتهي قريبا (الحلقة الثانية)

11:44 ص الجمعة 04 يناير 2019

نجح الجيش العراقي في تحرير الموصل

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- سارة عرفة ورنا أسامة وهدى الشيمي:

في الحلقة الثانية من هذا التحقيق الذي أعدته نيويوركر ونشرته في آخر نسخها في 2018، سلط الكاتب الضوء على الضربة التي تعرض لها تنظيم الدولة الإسلامية بعد طرده من مدينة الموصل التي كانت تشكل الجانب الأكبر من موارده المالية.

غير أن هذه الضربة وطرد التنظيم من الموصل والكثير من المدن والبلدات العراقية لم تنهِ الحرب ضد التنظيم المتطرف "فالغارات الجوية لن تقتل الفكرة" التي تأسس عليها التنظيم.

يتحدث الكاتب أيضا عن الموصل وكيف تحولت البلدة القديمة إلى أنقاض إضافة إلى معاناة الأهالي في البحث عن جثث ذويهم والكثير منهم سقط في معركة تخليص المدينة من التنظيم..

ألحقت المعارك أضرارًا كبيرة بتنظيم الدولة الإسلامية؛ إذ قضت على جل موارده. غير أن الحرب لن تنقضي حتى وقت قريب؛ فالغارات الجوية لن تقتل الفكرة (التي ينبني عليها التنظيم)، لذا خارت قوى أنظمة الأمن والاستخبارات في العراق خلال محاولتها لإنهاء المهمة.

أمضى المسؤولون في الجيش الأمريكي والعراقي سنوات طوالا في التخطيط لحملة تخيلص العراق من الدولة الإسلامية، وكأن غياب الجهاديين سيقود العراق تلقائيًا نحو مستقبل ديمقراطي مُشرق، كالذي تحدث عنه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وأوهم العالم بأنه سيسعى إلى تحقيقه من أجل الحصول على موافقتهم على غزو العراق عام 2003.

غير أن تنظيم الدولة الإسلامية استمد قوته من فساد وقسوة الدولة العراقية.

على مدار نحو ثلاثة أعوام سيطر التنظيم على حوالي نصف مساحة سوريا وثلث العراق، حيث تواجد ملايين الأشخاص. دمر المساجد والمدارس وخرّب المواقع الأثرية، وشن حملة تطهير عرقي وإبادة جماعية، بالإضافة إلى اختطاف النساء واستخدمهن إماءً
للجنس.

وصل نجاح التنظيم إلى ذروته في عام 2014، إذ أنه كاد يستولي على بغداد وباتت الدولة العراقية على وشك الانهيار.

والآن بعد أن فقد تنظيم الدولة الإسلامية مدينة الموصل كبرى المدن التي استطاع السيطرة عليها، وكانت مصدر شرعيته وثرائه وقوته، أصبح مئات الآلاف من المدنيين يعانون، لا سيما وأن أي شخص تعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية أو كان له أي اتصال به إما أن يُقتل، أو يُطرد من المجتمع ويصبح منبوذا.

وفقًا لمسؤول استخباراتي بارز فإن آلاف الرجال والشباب متهمون الآن بالانتماء لتنظيم الدولة الإسلامية، وتم إعدام المئات حتى الآن، وأشار المسؤول إلى أن عددًا قليلًا جدًا من المشتبه بهم يقدمون إلى المحاكمة، من أجل إيهام المواطنين بأنه يتم التعامل مع الجميع بعدالة.

الآن يعيش العراق مرحلة حساسة ربما تكون الأكثر حساسية في تاريخه الحديث. فالتنظيم الجهادي هُزم في المعركة لكنه لم ينهر لأي سبب داخلي، لذلك فهو لم يفقد مصداقيته ولا يزال البعض يتعامل معه باعتباره بديلا منطقيًا ومناسبًا للغاية قادرًا على حكم البلاد بعدل، ما يضع الحكومة العراقية أمام تحدٍ حقيقي: هل ستتمكن من استعادة هؤلاء الأشخاص وإقناعهم بأن التنظيم لم يكن سوى مجموعة من المرتزقة الذين عاثوا في الأرض فسادًا؟تنظيم داعش في العراق

في إحدى الليالي، التي اشتد فيها الضرب، سارع عبدالله وأسرته للهرب لضفة نهر دجلة، وهو يحمل أنابيب داخلية ومبردين كبيرين، وبصحبته أطفاله الذين لا يعرفون كيفية السباحة، فما كان من عبدالله إلا أن وضع كل طفلين في مبرد، وبدأ هو وزوجته آلاء في تسلق الأنابيب الداخلية وتوجيه أطفالهم في مجرى تيار النهر، في اتجاه الأراضي المحررة.

بحلول بدايات شهر يوليو، كان مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية قد قتلوا الآلاف من قوات الحكومة ورجال الشرطة، إضافة إلى تعرض قادة عراقيين لضغوط هائلة لإنهاء المعركة. أصبحت الأسابيع القليلة التالية عبارة عن حمام دم، وذلك لأن كل من أُلقي القبض عليه من رجال التنظيم، أُعدم فورا، وصور أفراد قوات الأمن العراقية أنفسهم وهو يلقون الأسرى من على المنحدرات، ويطلقون النار عليهم، وحلقت طائرات الهليكوبتر فوق نهر دجلة وقصفت الناس وهم يحاولون عبور النهر سباحةً.

افترضت القوات العراقية أن أي شخص لا يزال يعيش في المدينة القديمة انحاز إلى تنظيم الدولة الإسلامية. لذا استمرت القوات لباقي الشهر في إلقاء الجثث في مجرى النهر.

قال أحد ضباط الجيش العراقي لموقع إخباري شرق أوسطي: "لقد قتلناهم جميعاً - داعش، رجالاً ونساء وأطفالاً". وبينما كان يتحدث، سحب زملاؤه مشتبهًا به في الشوارع بواسطة حبل ملفوف حول عنقه. "نحن نقوم بنفس ما كانت تقوم به داعش، فقد نزل الناس إلى النهر للحصول على الماء، لأنهم كانوا يموتون عطشًا، لكننا قتلناهم".

مع انتهاء المعركة، ردم الجنود أنفاق حفرها التنظيم، وذلك لخنق أي جهادي داعشي ما زال على قيد الحياة داخلها، ولإخفاء أي معالم لجثثهم وذلك بخلطها مع الخرسانة، وبالتالي حجب حجم الفظائع والانتهاكات التي ارتكبها الجنود. رغم ذلك، لا يزال الصحفيون يعثرون على جثث لنساء وأطفال على ضفتي النهر، وهي معصوبة العينين، ومقيدة للخلف، وثقوب الرصاص واضحة في جماجمهم.

بعد عام ونصف العام من إعلان العراق النصر، أصبحت المدينة القديمة في حالة خراب، حتى أن ضوء الشمس بات يلمع من خلال ثقوب الرصاص في أبواب الجراح . تقدر الأمم المتحدة خسائر معركة الموصل بحوالي عشرة ملايين طن من الأنقاض. كانت العديد من المباني مأهولة بشكل مستمر منذ القرن السابع حتى الأسبوع الثاني من يوليو عام 2017. الآن تحول السير في أرجائها إلى ما يشبه التجول في مقابر هذه الأجيال.

بعد انتهاء معركة الموصل بوقت قصير، بدأ الأهالي في التوجه للدفاع المدني باحثين عن جثث ذويهم. هنا يأتي دور رجال الدفاع المدني؛ إذ يبدأون في البحث عن هذه الجثث تحت الأنقاض.

وقد اعترف التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بوقوع مئات القتلى من المدنيين، لكن الدفاع المدني العراقي سجل بيانات الآلاف من الجثث في مدينة الموصل. أيضا حصلت وكالة الأسوشيتد برس على قائمة تضم ما يقرب من عشرة ألاف مدني، تم تسجيل جثتهم في مشرحة محلية، وتنوعت أسباب الموت بين سحق العظام نتجية سقوط خرسانة المباني على الأجساد، وبين نسف كامل للجثث.

فيما صرح عقيد بالجيش الأمريكي لأسوشيتد برس أنه تصرف غير مسؤول تسليط الضوء على عدد المدنيين الذين قتلوا، في حين أن هؤلاء القتلى، منعوا معاناة سنوات طويلة كان ليتعرض لها باقي مدنيي الموصل، سواء قتلا أو تشويهًا على أيدي هؤلاء الإرهابيين (داعش).

EI

في مكان قريب، التقت المجلة بشخص يُدعى ثينون يونس عبدالله. بعد التحية، شق بعناية طريقه إلى أسفل كومة من ثلاثة طوابق من الأنقاض - موقع منزله السابق - مع ابنه البالغ من العمر عشر سنوات. عادت أسرته لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه. كل شيء قيّم قد نُهِب بالفعل، لكنهم نجحوا في إنقاذ مولّد كهرباء معطل، وربطوه في الجزء الخلفي من سيارتهم.

قال عبدالله إن أولاد عمه، بعد المعركة، كانوا في مقدمة أفراد أسرته الذين عادوا إلى المدينة القديمة، لكن بمجرد أن فتحوا الباب انفجرت فيهم عبوة ناسفة. عندما وصل عبدالله، بعد عدة أشهر، وجد منزله في حالة خراب، يعُجّ بجثث عدد من مُقاتلي الدولة الإسلامية في الداخل، إلى جانب جثة والدة علاء؛ التي فضّلت البقاء لأنها كانت ضعيفة جدًا لا تقوى على الهرب.

قاد عبدالله سيارته إلى تلّ من المعادن والخرسانات المتشابكة. دخلنا منزله خِلسة أسفل الدرج، عبر ثقب في جدار الحمّام. وعلى أرضية المطبخ كانت هناك ثلاث بُقع نتيجة تسرّب بعض السوائل بعد تحلّل أجساد الموتى. قتل شقيق عبدالله في الشارع لكنهم لم يعثروا على جثته إلى الآن.

التحرّك كان صعبًا. الأرض كانت مليئة بالحطام، كانت هناك بقايا أجهزة ترانزستور وكرات معدنية وغيرها من المواد المُستخدمة في تصنيع القنابل متناثرة على الأرض. بعد ذلك، وأثناء مُغادرتي، طرقت قدمي فوق كتلة خرسانية مزروعة تحتها عبوة ناسفة. توقفت، ولاحظت قنبلتين آخريين غير منفجرتين على بُعد بِضعة أقدام، إضافة إلى أربعة صواعِق. توجّهنا إلى الخارج من خلال الثقب في جدار الحمّام، وهبطنا إلى أسفل التل، حيث تواجدت جثة داعشي في الصناديق الجلدية المتعفّنة.

ستُكلّف عملية إعادة تعمير المدينة القديمة مليارات الدولارات، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، لكن وبغض النظر عن التكلفة الباهظة، كان لديّ شعور بأن الحكومة العراقية ارتضت تركها في الخراب نوعًا من العقاب. أخبرني عبدالله أنه لم يرَ أي دليل على التطهير المؤسسي -فقط مُلصقات موزّعة من منظمات المجتمع المدني للتحذير من مخاطر التجوّل في المناطق المحفوفة بالذخائر غير المتفجّرة، والتي لا تزال تحصد المزيد من الأرواح في المدينة القديمة.

استقل عبدالله وأسرته السيارة وتوجهّوا إلى جزء آخر من المدينة، حيث كانوا يقيمون في مبنى مهجور مُعظمه مُدمّر. وكان يراقب الطريق أثناء القيادة من خلال ثقب كبير في الزجاج الأمامي من السيارة أحدثه القصف الذي وقع قبل أكثر من عام.

فيديو قد يعجبك: