إعلان

على مكتب نجيب محفوظ

الكاتب الصحفي الدكتور ياسر ثابت

على مكتب نجيب محفوظ

د. ياسر ثابت
01:54 م الخميس 18 سبتمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

يعد نجيب محفوظ أحد القلائل الذين اجتازوا الفجوة العميقة التي تفصل بين ثقافة الكاتب وحساسيته وعقل القارئ المتلقي. موهبته الإبداعية تجعلك تسمع ما عنده وتحتفظ بالمعنى طويلًا. تُرجِمَت كُتبه إلى الكثير من اللغات الحية فتجاوزت شهرته الحدود العربية إلى العالمية.

من هنا تأتي أهمية كتاب الباحث عمرو فتحي، الذي يحمل عنوان «نجيب محفوظ: عن الكتابة» (دار الكرمة، 2025)؛ إذ جمعَ هذا العمل بدأبٍ ودقة، أقوال نجيب محفوظ حول أسرار فن الكتابة لديه وطقوس الإبداع، من واقع تجربته العملية الخاصة.

في إجاباتٍ شافية، يتحدَّث هذا الأديب عن علاقته بمؤثرات خارجية وداخلية تؤثر على الكتابة لديه، مثل الحالة المزاجية، والموسيقى، وفصل الخريف، وكذلك الإلهام، وهل يخضع له أم لا؟ ومتى يعرف أن الموضوع الذي خطر بباله يستحق الكتابة؟ وما الفارق بين كتابة الرواية والقصة القصيرة؟ وهل يشغل نفسه أثناء الكتابة بتساؤلات وجودية؟ مثل: «هل يُكتب لهذا النص الخلود؟».

بادئ ذي بدء، يرى نجيب محفوظ أن عملية الكتابة في حد ذاتها هي فعل متفائل؛ لأنها تؤكد أن الكاتب يعتقد أن العالم رغم كل ما به من مآسٍ يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه. وهذا يقودنا إلى أن الكتابة مسؤولية، فلا بدَّ من أن ينطوي النص على ابتكار جديد، وإلا فهو لا يستحق أن يكون عملًا فنيًا. والقارئ لا يريد أن يطالع ما سبق أن كتبه الآخرون.

في تقديره، فإن «القصة هي أساس الفن الروائي، ومحاولات اتباع الرواية الجديدة أفادت الفن الروائي بلا شك حتى وإن لم يتبعها الجمهور؛ لأنها تدخل في باب التجريب الفني المفيد للكاتب الروائي، لكن سحر الحكاية لا يُقاوَم. إن الرواية بكل بساطة هي حكاية تُقدَّم، لكن من خلال ذلك هي تُقدِّم شخصيات وقضايا اجتماعية أو نفسية أو فكرية. والرواية لها دائمًا فكر، فالرواية كما أعرفها هي الفكرة والشخصيات والسرد».

ويكشف أديب «نوبل» في حوار أجرته معه تشارلوت الشبراوي، ونُشِرَ في مجلة «ذي باريس ريفيو» في عدد صيف 1992 عن أن «سعيد مهران» السجين واللص الشهير بطل روايته «اللص والكلاب»، الذي دوَّخ الشرطة، هو صاحب أول تأثير أدبي عليه.

وحول طبيعة استلهامه شخصيات قصصه، يذكر نجيب محفوظ أنه يكتب ما يحدث حوله؛ في البيت، في المدرسة، في الشارع، في العمل، وكذلك الأشياء التي يتحدَّث فيها أصدقاؤه حين يُمضي وقتًا معهم، وتترك أثرًا فيه. يقول:

«أستقي أعمالي الروائية من المنبع الذي يستقي منه كل روائي في العالم. أي الحياة والذات وقد تكون الذات أهم من الحياة لأنها هي التي تختار ما يناسبها. وتختلف هنا الاهتمامات بين فرد وفرد، المحيط الذي حولنا متنوع، تلاقي العين مهتمة أحيانًا بالسياسة أو المرأة أو التجارة والمعاملات اليومية، ومن هنا يتنوع الأدب ويُثري».

وكما يقول: «قصصي القصيرة تأتي من قلبي مباشرة»، أما الأعمال الأخرى فتحتاج إلى تحضير، لافتًا إلى أنه حين كتب «الثلاثية» قام ببحث موسع، ووضع لكل شخصية ملفًا خاصًا بها، وأنه إذا لم يفعل ذلك لكان تاه، ونسي أشياء كثيرة.

ويذكر نجيب محفوظ من عادات الكتابة لديه ما يلي:

«أنا أكتب الموضوع كتابة أولى غير متمهلة وشبه عفوية، ولكني لا أبدأ الكتابة إلا بعد اختمار الفكرة في نفسي، وكذلك الشخوص، ثم أعيد كتابتها بتأنٍ من أولها إلى آخرها، وفي الكتابة الثانية تتغير تغيُّرا كبيرًا. ولكن الفكرة لا يصيبها التغيير إلا في أضيق الحدود».

ويضيف: «أراجع كثيرًا وأحذف كثيرًا، أكتب على الصفحة كلها، بل على الوجهين. غالبًا ما تكون مراجعاتي أساسية، وبعد أن أراجع أعيد كتابة القصة، وأرسلها إلى الناشر مباشرة، ثم أمزق كل المسودات وأرميها».

يقول أيضًا: «في تجربة حياتي، مرَّت فترة لم أكن أبدأ بكتابة الرواية إلا بعد أن أعايش أحداثها مدة طويلة إلى أن تتبلور الرواية تبلورًا نهائيًا. أكلّم أشخاصًا عديدين وأستقرئ الأحداث، وعندها أبدأ أكتب. أثناء الكتابة قد تتغير أشياء، لكني أظل محتفظًا بطريقي، خصوصًا في الأمور النابعة من الواقع، لأن الواقع متنوع ويحتاج إلى من يسيطر عليه حتى يُظهِره للناس بصورة معينة. لكنْ هناك أنواع أخرى أقرب للسردية، فيصح أن أبدأ الكتابة وليس في الذهن سوى زاوية صغيرة أو فكرة معينة، وأترك للقلم أن يسيل. أحيانًا كنت أبدأ من لا شيء، لا شيء في ذهني غير الرغبة في الكتابة بدون موضوع سوى كتابة قصة. جرّبت كل هذه الأشياء».

يرى نجيب محفوظ أن «حياة الكاتب لا تهم في حد ذاتها، والكاتب لا يصور الحياة كما لو كان في عقله آلة تصوير، وإنما هو يعكس تفاعلات وانفعالات وأفكار، يعكس الأشياء التي تشعره بالتعاسة، والعمل الأدبي منبعه مخزون فكري وعاطفي عند الكاتب يتراكم نتيجة لعلاقته وأسلوب تعامله مع الواقع، وفي كل عمل أدبي شيء حميم وكأنه جزء من نفس الكاتب».

نطالع أيضًا في حوار آخر ما يلي: «إن أغلب القصص التي نشرتها قد كتبتها وأنا في دوامة انفعال نفسي وفكري، فأنا لا أحِبُّ أن أكتب شيئًا وأنا في مثل ظروفي الفكرية الهادئة.. إن الأحداث والأنباء تثير الأفكار، وأنا ككاتب أضع نُصب عينيّ ألا أتخلف عن الحياة، ولا أتجاوزها أكثر من المعقول. أن أعايش حياة الناس حولي لأستشف من وجوههم فهمي لواقعهم، لأسلوب حياتهم، لأفراحهم وأحزانهم وكل قيم وجودهم، حتى أصورها، حتى أعبِّر عنها. في فترة تكوُّن الفكرة، قد يمر عامٌ أو عامان دون أن أمسك بالقلم، أما إذا وصلت إلى مرحلة التنفيذ فإن المسألة تتحول إلى عمل يجب أن يُنجَز ، ولن يُنجَز إلا بالإرادة والصبر ، فلا أعرف دلال الإلهام، وإنما أعرف أن عليَّ أن أجلس إلى مكتبي كل يومٍ ساعة أو ساعتين حتى أفرغ من العمل في عام أو عامين».

في تقدير هذا الروائي الفذ، فإن كل عمل فني مهما كان ملتزمًا بتقاليد سابقة هو ابتكار جديد، وإلا فهو لا يستحق أن يكون عملًا فنيًا. فالقارئ لا يُقبِل على رواية أو قصيدة ليقرأ فيها ما سبق أن قرأه من قبل بأقلام كُتَّاب آخرين، وإنما ليقرأ ما لم يقرأه من قبل، وربما ما لم يكن يتخيله أو يتوقعه.

ونتيجة انقسام حياته بين الوظيفة والأدب، اقتضى الأمر من نجيب محفوظ إخضاعها لنظام دقيق، حتى يتسنى له دائمًا وبصفة مستمرة مواصلة الكتابة. ولظروف خاصة وحتمية، اقتصر موسم عمله الأدبي على الفترة ما بين أكتوبر وأبريل من كل عام. ولم يعد ذلك خسارة مطلقًا؛ إذ أخذ من أشهر مايو ويونيو ويوليو وأغسطس وسبتمبر راحة نسبية، واختلاطًا بالناس والأماكن، فنضجت خبرته بالمكان الضيق الوحيد الذي عاشره على ظهر الأرض، وهو القاهرة.

مرَّ محفوظ إبداعيًا بثلاث مراحل، هي: مرحلة «الوظيفة»، ومرحلة «ما بعد التقاعد»، ومرحلة «ما بعد جائزة نوبل». في مرحلة الوظيفة كان يفرغ من عمله في الثانية ظهرًا، ويعود إلى البيت لتناول الغداء، ثم يستريح بعض الوقت عبر نوم القيلولة، ثم يجلس على مكتبه عندما تدق الساعة الرابعة، ويبدأ في الكتابة أولًا لمدة 3 ساعات، ثم تليها 3 ساعات أخرى للقراءات المتنوعة. وفي هذه المرحلة كان يمنح نفسه إجازة من الأدب، يومي الخميس والجمعة.

يقول نجيب محفوظ: «لم يكن جلوسي اليومي للكتابة بالأمر السهل؛ لأنه يقتضي أولًا أن يكون موضوع الكتابة قد اختمر في ذهني، وكان هذا الأمر يجعلني في حالة تفكير مستمر أثناء وجودي في الوظيفة، وفي أوقات العمل، وفي أثناء المشي، وحتى وقت تناول الطعام. وفي كل مرة تأتيني تفصيلة من جسم الرواية، وما الراوية إلا مجموعة تفاصيل صغيرة تتجمع وتكون العمل الروائي في صورته النهائية. في بعض الأحيان كنت أسجِّل بعض الملاحظات والأفكار العابرة التي تأتيني أثناء وجودي خارج المنزل في ورقة صغيرة حتى لا أنساها، وكنت أهتم بتسجيل هذه الملاحظات خلال فترة اهتمامي بالكتابة الواقعية. أجلس على المقهى مثلًا، فتجذب اهتمامي ملاحظات وتفاصيل صغيرة كانت تفيدني أثناء الكتابة. وفي مرحلةٍ لاحقة لم تعد لتلك التفاصيل نفس الأهمية، حيث انصب اهتمامي الأكبر على الفكر والتأمل».

ويوضح أنه إلى جانب السجائر، يحب أن تكون هناك خلفية موسيقية أثناء الكتابة، يجعلها في هامش الشعور ولا يلتفت إليها، ثم إنه لا يتناول أي مشروبات بما فيها الشاي والقهوة، ويدهشه ما يسمعه عن بعض الكتاب الذين يحرصون على تناول الخمر أو الحشيش حتى يهيئوا أنفسهم للكتابة، فعندما يمسك بالقلم لا بدَّ من أن يكون في أقصى درجات الوعي والتركيز والانتباه، ثم إنه لا يستطيع الكتابة إلا على مكتبه في البيت، أما خارجه فلا يمكنه الإمساك بالقلم. وكل أعماله الروائية كتبها في البيت باستثناء السيناريوهات، فأغلبها قام بكتابته على المقهى، وذلك لأنها لا تحتاج إلى درجة التركيز نفسها التي تحتاجها الروايات.

وعندما خرج إلى المعاش وتقاعد، لم يختلف نظام الكتابة كثيرًا. يذهب إلى المقهى مبكرًا، ثم يعود ليبدأ الكتابة ولمدة 3 ساعات؛ حيث خصص فترة الصباح للكتابة. أما القراءة فكانت في فترة ما بعد الظهيرة حتى بدايات الليل. وقبل حصوله على جائزة نوبل أصيب بضمور في شبكية العين، ما جعل موضوع القراءة والكتابة من الأمور العسيرة والمرهقة، وسبَّب هذا الأمر له إزعاجًا شديدًا وهدم النظام الذي سار عليه طيلة حياته؛ بل لم يعد هناك نظام أصلًا؛ حيث امتنع عن القراءة نهائيًا، وأصبح أقصى مدة يجلس فيها إلى مكتبه لممارسة الكتابة ساعة واحدة في اليوم.

ويشير نجيب محفوظ إلى أنه أحب فصلَي الخريف والشتاء، وكان يجد نفسه مقبلًا على الدنيا أكثر في ذلك الوقت من السنة، بينما يتحمل الصيف بصبر، وكأنه يغالب حالةً -وإن كانت خفيفة- من الاكتئاب، ويظل ينتظر حلول الشتاء التالي، ويجد نفسه مقبلًا على الكتابة وهو في حالة من الاشتياق.

إعلان

إعلان