إعلان

الحكمة بين الصراخ والهدوء

حسام زايد

الحكمة بين الصراخ والهدوء

حسام زايد
01:23 م الخميس 07 أغسطس 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

لطالما تردد صدى مقولة سقراط الخالدة: "إذا ركلني حمار، أفأقاضيه؟ أم أبادله الركل؟" في أذهان الحكماء، لتطرح تساؤلاً جوهريًا حول جدوى الدخول في معارك لا تستحق، ومدى فاعلية الرد على الإساءة بالمثل. ففي خضم نقاشاتنا اليومية، سواء في فضاءات العمل، أو على منصات التواصل الاجتماعي، أو حتى في تفاعلاتنا الشخصية، غالبًا ما نجد أنفسنا أمام خيارين: إما الانجرار إلى دوامة الصراخ وتبادل الاتهامات، أو التسامي فوق الضوضاء والالتزام بمبادئ العقلانية والاتزان.

ولعل أبلغ الأمثلة تكرار مشهد مألوف في الطرق.. كحادث بسيط بين سيارتين يتحول إلى ساحة صراخ، وتبادل للاتهامات، وربما اشتباك بالأيدي. ورغم أن ما جرى قد يُحل في دقائق، إلا أن غياب ثقافة احترام القانون يدفع بعض السائقين إلى التصرف بانفعال، ظنًا أن الصوت العالي يُثبت "الحق"، أو ربما يحسم الموقف لصالحهم. وفي المقابل، يمكن اللجوء مباشرة إلى الشرطة أو شركات التأمين لحسم الخلاف بهدوء وفق القانون، لا بالصوت.

إن الاعتقاد بأن رفع الصوت وتوجيه الإهانات وكيل الاتهامات هو سبيل لكسب المواقف، هو في حقيقته مغالطة كبيرة. فالصراخ، على عكس ما يعتقد البعض، لا يدل على قوة الحجة أو متانة الموقف، بل هو في الغالب مؤشر على ضعفها وفراغها. عندما يتحول الحوار إلى ضوضاء وصياح، وتهبط لغة النقاش إلى مستوى التنابز بالألقاب والإهانات الشخصية، فإننا نكون قد ابتعدنا كل البعد عن الهدف الأساسي من أي حوار بناء: وهو الوصول إلى فهم مشترك أو حل منطقي.

في المقابل، تختار الحكمة غالبًا الصمت، لا عن عجز أو ضعف، بل عن سمو وإدراك عميق. فالشخص الحكيم يدرك أن بعض المعارك لا تستحق أن تُخاض، وأن الرد على كل استفزاز مضيعة للوقت والجهد. عندما يختزل الآخرون الحوار إلى إهانات شخصية وصراخ غير مجدٍ، يصبح أقوى رد هو الترفع عن هذا المستوى المنحدر من النقاش. هذا الترفع ليس هروبًا من المواجهة، بل هو اختيار واعٍ للحفاظ على الطاقة والتركيز على الأهداف الحقيقية.

إن العقل الراجح لا يحتاج إلى الصياح لإثبات وجوده أو لفرض حضوره. بل على العكس تمامًا، يفرض العقل الراجح حضوره بهدوئه واتزانه، وبقدرته على تحليل الأمور بموضوعية، وتقديم الحجج المنطقية، حتى في ظل أسوأ الظروف وأكثرها اضطرابًا. إن امتلاك القدرة على التحكم في ردود الأفعال، والتفكير بعمق قبل الاستجابة، هو سمة مميزة للأشخاص الذين يدركون أن القوة الحقيقية تكمن في ضبط النفس ووضوح الرؤية.

فلنتذكر دائمًا أن كسب المواقف وتحقيق الأهداف لا يتم بالصراخ أو توجيه الإهانات، بل بالتعقل في الأحكام، والاتزان في الردود، والتركيز على جوهر القضية لا على زيف المظاهر. ففي نهاية المطاف، يبقى الصمت المليء بالحكمة أقوى بكثير من ألف صرخة لا تحمل في طبعها إلا الفراغ والضجيج.

إعلان

إعلان