إعلان

خيالٌ يتسع للجميع!

د. ياسر ثابت

خيالٌ يتسع للجميع!

د. ياسر ثابت
07:00 م الأربعاء 06 يوليه 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

المفتون بالترحال، يتطلع دومًا إلى استنشاق هواء لم يملأ رئتيه من قبل.

ولعل هذا ما اقتنع به الروائي المصري الكندي أسامة علام، حين قرر في «طريق متسع لشخص وحيد» (دار الشروق، 2022) الكتابة عن أسفاره ورحلاته بأسلوبٍ يقف على حدود الواقع والخيال.

كل ما عليك كقارئ، هو أن تقرأ وتستمتع، وألا تشغل بالك بالاستفسار عن مدى واقعية هذه القصة أو تلك، وإلى أي حدٍ تنتمي إلى عالم الخرافات بأبعادها الأسطورية.

عبر 190 صفحة، يقودنا أسامة علام عبر حكاياتٍ صغيرة تتجلى فيها موهبة السرد، إلى دهاليز العوالم الخفية لعدد من المدن شرقًا وغربًا، ويسرد لقارئه حكايات ممتعة من 12 مدينة: نيويورك، نيوجيرسي، باريس، مونتريال، تولوز، أورلاندو، إدمنتون، القاهرة، الشام، سانت جونز – نيوفوندلاند، ميامي، شيكاغو.

ورغم أن الكتاب هو من أدب الرحلات، فإنه لا يمارس ما هو تقليدي ومألوف، فيزود قارئه بمعلومات ملؤها الدهشة والانبهار عن هذا المتحف أو ذاك المعرض أو عن ناطحات السحاب والقصور الفخمة، أو عن الأنهار والبحار، والحدائق والجنائن، بل نراه يعمد إلى أنسنة الأشياء والجمادات واستنطاقها، مع إطلاق العنان للخيال كي يعيد تشكيل الحكايات والمواقف.

«ما زالت البلاد البعيدة عالقة بملابسي وروحي» (ص 159)، لكنه يكتب عن فتاة صماء تُحرِّك عرائس الماريونت، وجيران لا يمكن رؤيتهم بالعين المجردة، ويمامة بيضاء في شرفة بيت العائلة، وقط عجوز عانقه في إدمنتون، والكلب «بندق» الذي سكن في جسده بعد زيارة إلى ديزني لاند في أورلاندو. وهو يُحدِّثنا عبر عوالم مصنوعة من السحر والجنون والخرافة، عن بائعة الأحلام في تولوز، ومجنون مونتريال الذي يُطلق رصاص بندقيته الوهمية إلى السماء، ويجمع الطيور الميتة في حقيبته الممتلئة بكتب ولوحات جمعها من صناديق القمامة، قبل أن يقول له «هناك الكثير من الطيور يا رجل. كل هذه الطيور يجب أن تكون على المائدة» (ص 108).

يمكن التوقف عند مقدمة الكاتب محمد المنسي قنديل، التي قال فيها عن أسامة علام: «فرغم أن روحه لا تطيق الاستقرار فإنه يتأمل المدن طويلًا، لا يراها كأبنية مرصوصة وشوارع مرصوفة، ولكن كأساطير حية، عليه أن يُعيد تأويل رموزها، ويستشف معالمها من وجوه ساكنيها، البشر الذين يلتقيهم في الشوارع والمقاهي وسرعان ما يُقيم معهم علاقة إنسانية ويستمع في صبر إلى بَوْحهم الدفين" (ص 11).

في إدمنتون الكندية، يحكي أسامة علام بكثير من الشجن عن معانقة قط عجوز، قائلًا:

«في العيادة اليوم احتضنني قط عجوز. يعيش في العيادة من أربعة عشر عامًا، هي كل سنين عمره. كان مزاجي عكرًا؛ بسبب برودة الجو وغياب الشمس وكآبة تسكن القلب بلا استئذان ولا سبب. أشرتُ له مرات بأنه ليس وقت الملاعبة، لكنه أصرَّ، فحملته على صدري كطفل صغير. للقطط صوتُ تنفس كغمغمة غير مفهومة وبعض من مؤانسة. وعندما تخلى صديقي عن معانقته الإجبارية لي، اعترفتُ لنفسي بأن هذا القط تسكن جسده روح أحد هؤلاء الذين أحبهم ورحلوا، أو تركتهم لأني مسكونٌ بالغياب والسفر» (ص 150).

يصارحنا الكاتب برأيه في «التفاحة الكبيرة»: نيويورك، المدينة التي لا يحبها، وهي لا تحب أحدًا: «أردد أسماء أحبتي كتعويذة سحرية لرجل وحيد في مدينة لا تحب أحدًا» (ص 24).

يقول عن مشاعره تجاه هذه المدينة: «لا أعرف سبب خوفي المستمر من نيويورك. فهي أكبر من قدرة عقلي على الاحتواء. مدينة تجبرك على الخضوع لمنطقها الخاص. تعرف قدرتها الطاغية على ترويضك، فلا تسألك عن هويتك؛ لأنك ستكون بلا شك تفصيلة صغيرة جدًا فيها. ستسكن تحت جلدك قهرًا. وستترك وشمها الخاص على روحك، دون حتى موافقتك التي لا تعني لها أي شيء» (ص 17).

وفي محاولة بائسة لمصاحبة هذه «المدينة المتوحشة»، يُجبر الكاتب نفسَه على زيارتها في أيام عطلات نهاية الأسبوع، فيترك سيارته في نيوجيرسي، ويركب الحافلات، مستمتعًا بصحبة الآلاف من العمال الذين يذهبون إليها كل يوم، وينزل إلى مانهاتن مقررًا الضياع وسط البشر.

أمام متحف المتروبوليتان الشهير بنيويورك، تقف فتاة شقراء نحيفة، وفي يدها ماريونت لرجل عجوز، يحكي قصته من جهاز تسجيل صغير تضعه بجوار قدمها، يقول الرجل: أنا والفتاة التي تُحركني، ننتمي إلى أسرة واحدة، تقطن بقرية صغيرة في جورجيا. ساعدتنا ساحرة عجوز على الهرب إلى أمريكا، لكنها طلبت أن يُضحي أحدنا بحياته من أجل الآخر، فقررتُ أن أصبح دمية خشبية، من أجل هذه الفتاة الفاتنة.

تبكي الفتاة بحزن حقيقي، فتحتضنها الدمية، قبل أن تضعها في حقيبة كبيرة بجوارها، لتُخرج ماريونت أخرى لسيدة عجوز، تقول: إنها زوجة هذا الرجل العجوز المهووس، وأنه كاذب، حتى أنه اختلق هذه الحكاية، لأنه يُحب أن يعيش دور الضحية، وأن حفيدتها الرائعة هي السبب الوحيد في استمرارها في الحياة مع هذا العجوز السكير.

تقول ذلك، ثم تلتفت لتحتضن الفتاة التي لا تكف عن البكاء، وهي تضع جدتها الدمية في الحقيبة بجوار الجد المهووس، ثم تُخرج دمية ثالثة، هي نفسها الفتاة الشقراء، وحين ترفعها في مستوى رأسها، تنساب من جهاز التسجيل، موسيقى كمنجات حزينة، وتمر الفتاة على المتفرجين الذين التفوا حولها في حلقة دائرية، ثم تضع الدمية التوأم بجوارها، في وضع القرفصاء، وتفتح ذراعيها، فيما جهاز التسجيل يتحدث للجمهور: أنا فتاة صماء تشعر بالوحدة في مدينة لا تحب أحدًا. عانقْني فأنا أحبك كشخص ما زال قادرًا على الحب.

«وعندما أصل للفتاة وأحتضن جسدها النحيل أبكي، وأكتشف أنها أيضًا غارقة مثلي في البكاء» (ص 19).

في «سوق البراغيث»، الذي يحوي كل ما قديم وعجيب، وقعت عيناه على صورة قديمة بالأبيض والأسود لرجل وزوجته في حفل زفافهما، يشتريها بالمبلغ الموجود في جيبه (20 دولارًا)، ويُعلِّقها في شقته فوق شاشة التليفزيون، لكنه فوجئ في الليلة الأولى لوجود الصورة في شقته بأن الزوجين اقتحما أحلامه، ليتحدثا في البداية عن ترتيبات حفل الزفاف، ثم إذا بهما في الأيام التالية يتدخلان في حياته الشخصية وينتقدان تفاصيلها، «لكن الأمر زاد عن مجرد انتقاد ملابسي واختيارات أفلامي وأصدقائي، ووصل إلى اتهامي- ذات حلم- بأني شرقي متخلف لا يستطيع محبة الحيوانات» (ص 22).

يعود الكاتب بالصورة إلى سوق البراغيث محاولًا إعادتها للبائع، الذي ما إن يراه حتى يضحك قائلًا: «تستطيع أن تتركها هنا، لكني لن أعيد لك نقودك. هذه الصورة أعجب ما أملكه. إنها لأبي وأمي اللذين لم يتوقفا عن التدخل في حياة كل من يعرفونه حتى وهما ميتان» (ص 22).

في مونتريال، يحكي عن «مصنع الدمى العجيبة»، الذي أصبح قصرًا بديعًا يسمى «سانت أمبروزي»؛ فقبل نحو عشرين عامًا، حين ارتحل الكاتب إلى كندا للدراسة، كان يبحث عن فرصة عمل، تُعينه على الحياة في الغربة، وعبر مكتب التوظيف، عثر على عمل في مبنى قديم.

وجد الشاب نفسه، في حجرة واسعة، مظلمة، حتى اشتعلت الأضواء المبهرة في سقف المكان، ليجد الكاتب المكان مزدحمًا بمئات من العلب لدُمى صغيرة في علبها الكرتونية، ومهمته- كما أخبره الشاب- هي أن يُخرج الدمى من العلب، ثم يُدمر هذه العلب قبل أن يُلقيها في صناديق القمامة، حيث أخبره الشاب الذي جاء به إلى المكان بأن «هذا المكان الواسع كان يومًا ما مصنعًا للدمى، لشركة لم يعد لها وجود بالمدينة. وأن أصحاب المكان يريدونه فارغًا بعد يومين» (ص 93).

«بنشاط وهمة بدأت في مهمتي، متذكرًا كلام الشاب عن ضرورة تدمير العلب؛ حتى لا يجدها المشردون حول المصنع ويبيعوها للأطفال، فيتسبب ذلك في مشكلة كبيرة للشاب ولي» (ص 93).

أُعجِبَ البطلُ بدميةٍ جميلة، احتفظ بها لابنه الصغير، لكن الإجهاد والتعب نالا منه بعد ساعات من العمل الشاق، فاستغرق في النوم في هذا المكان الغامض، إلى أن يطلع نهار اليوم التالي.

بعد أعوام، زار الكاتب مع أسرته القصر الذي كان مصنعًا للدمى قبل إغلاقه عام 1987، ووقف أمام واجهةٍ بها عدة دمى لأطفال مبتسمين.

«كاد قلبي أن يتوقف من المفاجأة. كنتُ أعرف الدمية التي في المنتصف. اقتربتُ أكثر وحدقتُ فيها طويلًا. كان على طرف العلبة أثرٌ لكتابة محاها الزمن. بخط أحمر رفيع قرأت: «إلى أجمل طفل في العالم»، فغرقت في البكاء» (ص 95).

في الشام، كان الحكواتي في الانتظار.

على مقهى النوفرى، تعالى صياح الرواد مع سرد الحكواتي

«ربما سمعوا الحكاية ألف مرة . لكن لطرقعات سیف حكاء الخليفة قوة تجعل القلوب لا تكف عن الصياح» (ص 170).

«في اليوم التالي لزيارة النوفرة، تركت الزمام لأقدامي، محاولًا الضياع في أحضان أزقة مشى فيها سلاطين وجوارٍ وغلمان وخيول لم يعد لجمالها وجود. تسحرني روائح البهارات وعطور الشام السحرية. وفجأة وجدت نفسي أمام حمام دمشقي مبني من ألف عام. دفعني الفضول فدخلت. ساحة كبيرة تتوسطها نافورة باهرة الجمال، وشخص ودود يسلمني دثارًا تفوح منه رائحة العطر، ومفتاحًا صغيرًا لخزانة سأضع فيها ملابسي. دقائق وكنت مستعدًا لخوض التجربة. يلف وسطي بشكيري الأبيض فيفتح لي الرجل باب ممر صغير. للحظة شعرتُ بأنني أليس التي ستدخل بلاد عجائبها» (ص 170).

في هذا العالم المغوي الذي صنعه أسامة علام، يُعيرك أحلامه وكوابيسه، ويُهديك أرقه واضطرابه، مع باقة ذكريات، لتبقى داخلك حكاياته طويلًا.. أكثر مما تظن.

إعلان