إعلان

مشهدان ليس بينهما فاصل ..

د.هشام عطية عبدالمقصود

مشهدان ليس بينهما فاصل ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:24 م الجمعة 11 سبتمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"قصة قصيرة"

"1/ عندما يأتي الشتاء "..

الساعة السابعة صباحًا وعدد آخر من الدقائق لم يرد اختزالها رقمًا محددًا، حين غادر الشوارع الرئيسية التي تسير فيها العربات، متجهًا نحو الشارع الواسع الذي يتقاطع معها عرضيًا، أشجار اكتسبت لونها بعد أن طلاها المطر بخضرتها فبدت كأنها نبتت توًا، الجو البارد يمنح لزفير التنفس شكلاً محببًا، رسومات تتوالى في الهواء، تتشكل وتتلاشى.

تقابله واجهة العمارات مغسولة، المطر يبلل بعض جوانب أسفلت الشارع فيلمع، وهناك على الناصية كانت العربة الخشبية الصغيرة تزدان برسوم وكلمات تمنح للفول اشتهاء طيبًا.

وقف إلى جوار المنشغلين بوضع قطع الخبز في أطباق الفول الصغيرة والتهامها كمتواليات سعيدة، طلب أشياءه وكان جائعًا، وقف يأكل في سرعة كأنه يتسابق مع من حوله، حين انتهى من الطعام، جلس إلى الجوار وجاء كوب الشاي تصاعدت أبخرته فتزينت حافة الكوب العلوية بقطرات ماء مبهجة الشكل، على الرصيف في المواجهة كان ولد وفتاة يأكلان الساندوتشات، استغرقا في الطعام وتبادلا كلمات قليلة، ربما كانت أخته، تأكد ذلك حين اقتربت منه ملامحهما وهما يعبران الطريق.

انتبه لصوت السيدة العجوز الجالسة على كرسي قريب والموضوع أمامها بعض الأطباق، كانت تسأله: الشاي طعمه كويس؟ أعاد النظر للكوب الزجاجي الذي ظهر أن في قاعدته كسرًا صغيرًا، وأجاب: فعلا، ثم أضاف ليطمئنها: كويس.

بدأ يقرأ الصحيفة، يحب هدوء صفحتها الأخيرة، قفز من على كرسيه؛ ليلحق بغطاء نظارة السيدة الذي طوحته الرياح الباردة بعيدًا، شكرته وسألت: تشرب شاي تاني؟، شكرها مبتسمًا وأومأ موافقا، مرت دقائق أخرى كانت أكواب الشاي قد انتصفت، ثم سيارة تقف بالقرب وفتاة تمشي في اتجاهنا، قدمتها قائلة "حفيدتي" هز رأسه تحية لها وردت الفتاة بابتسامة ودودة، مشيتا في اتجاه العربة، جلست إلى جوار حفيدتها، وحين بدأت العربة في التحرك، نظرت إلى جانب الرصيف بكامل وجهها وأشارت وداعًا.

"2/ دفء"..

نظر إلى الكاميرات المغطاة بأردية من البلاستيك الشفاف على جانب الطريق، كان الوقت قد تخطى منتصف النهار، وأمطار خفيفة ما زالت تترك بصماتها تناثرات موزعة بشكل ظنه يصنع شكل الزهرة بعرض الشارع، الآن توقفت، عدد كبير من الأفراد يحيطون ببقعة صغيرة يجهزون ما ظهر أنه مشهد من فيلم سيؤدي فيه الممثلون الجالسون إلى جوار الكاميرات أدوارهم، ينهمك كل هؤلاء في تنسيق هذه المعدات الكثيرة من أجل بناء صورة لحظة عابرة في مشاهد الحياة اليومية لإنسان واحد في كل هذا الكون، لم يعتبر ذلك دليلاً أبدًا على تفاهة رحلة البشر وما يسببه اتكاؤهم طويلا عند ما يثقلهم بينما يمعنون التأمل فيه.

حين أخذ يتفلسف هكذا ألح عليه خاطر حاول أن يمنحه انطلاقا في الفضاء فارتد إليه ماكثا وملتصقًا، ضغط على أزرار الهاتف بحثا عن شيء يعرفه، هذا هو الرقم، ثم هذا هو الصوت الذي يجيء هادئًا، ويبدو كأنه لم تقطع تواصله شهور وسنوات، صوت أليف طيب، يقول لنفسه ما أبهى أولئك الذين يتحلون بالقدرة على تجاوز ترهات الحياة بتلك البساطة ويمنحون الحياة من ألفتهم فتقل وطأتها.

لم يمر وقت طويل حتى كان جالسًا علي مقعد خفيف من الألومنيوم يحب دائمًا شكله اللامع المضيء، ثم هذه المظلة التي تم ربط قماشها على محور خشبي في الجوار بعد أن توقف المطر، كانت شمس كسولة تشغل ثلث مساحة المنضدة تاركة ما تبقى؛ لتسكع الظل البارد، ومنح شكل السور المنخفض الذي تصنعه شجيرات قصيرة متراصة إحساسًا ممتعًا لم يسعَ؛ لتفسيره، واصل النظر متابعًا تكعيبية السور ولون الشجيرات، مقاعد قليلة يشغلها عدد من زبائن المكان التي بدت وجوه بعضهم مألوفة لديه، الأماكن ذات الأثر لا تبارح المخيلة، هكذا فكر وأضاف: حتى لو بعدت مسافات وأمكنة، ما زال الوقت مبكرًا حتي يكتظ المكان مع حلول المساء فتتشكل لوحته الليلية متألقة بزحام غير ضاغط، تلذذ بطعم القهوة الداكنة في الفنجان الكبير، قال: حقًا هنا مساحتك الخاصة التي تعرفك، ترك نفسه يتفحص وجوه الناس، وسرى دفء طيب في المكان.

إعلان