إعلان

 "توك توك".. و"تيك توك"..

د.هشام عطية عبدالمقصود

"توك توك".. و"تيك توك"..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 26 يونيو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يمكنك أن ترى عربات الـ"توك توك"، وهي تسير في الشارع أو حين تفاجئك في الطريق وهي "بتكسر عليك" من زاويتين، تعتمد زاوية الرؤية على ما أنت عليه نشأة وتكوينًا وثقافة وموقعًا اجتماعيًا، وحيث تشكل جميعها مرشحاتك للرؤية، والتي غالبًا ما ستكون موجهة لإدراك حالته من خلال إحدى هاتين الزاويتين، ليس بينهما واصل يلحم قطبيهما ولا تدرجات تقرب بعدهما، نظرة ترى في انتشاره المفرط خطأ جمًا، وتشويها لشكل وسائل النقل "التقليدية" المعتادة في الشوارع، وما يمثله ذلك من حالة منفرة وربما قبح لطابع حركة النقل والصورة العامة للمجتمع، تتناسي الزاوية طبعًا ما عرفناه عبر عقود طويلة من شكل المواصلات العامة القديمة والتي كان الركاب -الذين لم يصبحوا بعد بداخلها بل على تخومها- يمسكون مقبض باب الصعود ملتحمين كل بيد واحدة، بينما يقفون أيضًا بقدم واحدة على سلالم صعوده، وحيث تتأرجح كل من اليد والقدم الأخرى في الهواء، عمومًا هذه وجهة نظر ترى أن تحسن ذلك نسبيًا كفيل مع الوقت بصنع الصورة اللائقة لوسائل المواصلات العامة كما في دول العالم "المتقدمة".

وهكذا ترى هذه الزاوية من النظر أن الـ"توك توك" وسيلة نقل غير لائقة، وربما يفرط البعض في حساسيته فيرى أنها لا تليق بالعاصمة أو عواصم المدن، وأن الـ"توك توك" بعشوائية نموه وعدم القدرة الكاملة على تنظيمه وتقنينه ظاهرة تكبر وتتضخم في عشوائيتها، كما أن قيام سائقيه غير المرخص لهم -بل ومنهم الأطفال- بقيادته يؤدي لكوارث إنسانية ومرورية.

وجهة نظر أخرى تعتمد أيضًا على مرشحات الشخص يحملها بوعي أو حتى بمعايشة تلقائية، ترى أنه وسيلة قدمت لكثيرين من البسطاء وهم غالبية السكان سبلاً لحل مشكلات تنقلهم خاصة داخل الأحياء وفيما بينها، وأنه يوفر عملاً ووظائف ودخلاً لأسر، حيث يمنح "لقمة عيش حلال" لأناسٍ محدودي التأهيل العلمي أو الحرفي والمهني، وأن الـ"توك توك" يؤدي أيضًا خدمات مهمة، حيث ينقل الجمهور وخاصة كبار السن من أمام بيوتهم، ويذهب بهم حيثما يريدون، دون تعلل بزحام أو ضيق شوارع الأحياء، وبشكل سهل مناسب قليل التكلفة، وأنها تشكل خطوط نقل داخلية في المدن والأحياء الصغيرة، وحيث يتعايشون تمامًا مع الظاهرة ويرحبون بها دون شكوى أو تذمر.

في البلدان النامية كثيفة السكان محدودة الموارد يحدث دوما شيء من ذلك ما بين مساحتين من الموقف الاجتماعي لم يعد يتوسطهما شيء، حدان يحافظ كل منهما على تخومه وتقاليده ما أمكن له ذلك، فإذ لم يستطع أن يستكمل في ذات المساحة الواسعة التي تضم هؤلاء جميعًا، لجأ إلى خيال وصور الإعلانات يبحث فيها عن الجدران والحدود في صورة تداعب وتستجيب لمخيلته وموقفه الاجتماعي عبر الحدائق والبحيرات وسبل النظافة، مضفرًا مع ذلك الأمنيات والأمل الذي يمنح للفرد الفكرة فيتلهي بها حينًا حتى يصحو، وحيث لن يضمن أحد قط أنه حقق مراده في الحياة وبلغ اكتمال البهجة، وأني له ذلك؟، ومن يستطيع القول بأنه قد أحاط بسعادته، ففي كل تبرز عوامل الضيق والسأم والخوف كعوارض حياة، هكذا الكون سيرة وتاريخًا، وليس الجميع بمعزل، وهكذا تمامًا تؤكد لنا "كورونا"، سيشبه ذلك قصص وسيناريوهات الأفلام القديمة حينما يلتقي الحبيبان صدفة، ثم يتدخل آخرون وظروف وسياقات درامية لإفساد ما يجمعهما، ثم ينتهي الفيلم بأن يلتقيا ثانية متغلبين على كل تلك العوائق، ثم يرى المشاهد جملة النهاية التي ستبدو أنها بالطبع سعيدة ودائمة، لكن ما بعد مشهد النهاية -وهو الأطول في عمر الحياة- لا تحكيه الشاشات، هكذا أثرت الدراما والإعلانات في عقلية الجمهور، ومضى يفكر متأثرًا بذات المعادلة.

شيء من ذلك يحدث على منصات التواصل الاجتماعي من مستجدات هي من قبيل الغرائب والعجائب في ظاهر تنافرها مع القديم المتوارث والمحمول عبر الأجيال، وحيث تدفعه للظهور عليها كمنصات قادرة على بث فردي اختياري لا قيود عليه ولا حدود، يأخذ باحًا أكبر من فعل تأثيرات أوقات الأزمات والإرهاق النفسي بفعل جائحة كورونا؛ ليشكل ما نراه عليها خروجًا على التحفظ المعتاد وإيثار التأني في القول والسلوك، هكذا تصبح دوائر السوشيال ميديا عمومًا بحلوها ومرها أيضًا ظاهرة "توك توك" جديدة، يرى البعض ما تحمله منصاته من مشاهد وأغنيات وأفكار وأفعال على الهواء بثًا مباشرًا يأخذ إيقاعًا يناسب زمان "التيك توك"، عجيبًا غريبًا ومثيرًا للدهشة، بل أغرت الفكرة بأن يمد البعض مجال ذلك؛ لتكون مختلف منصات التواصل عتبات شهرة أو ثراء سمع أنه قد حققه آخرون، بفعل وإظهار ما هو يدخل في باب مجافاة التقاليد الراسخة وأحيانًا يمثل بجهل أو قلة معرفة وإدراك حالات خروج عن القانون، حتى إذا انتشر فيديو وشاع المحتوى كما أراد له صاحبه أو صاحبته واعيًا/ أو جاهلاً، صار تحت سلطة القانون أو ضغط العادات والثقاقة.

عقود طويلة من عناصر الثقافة والتقاليد المرعية ستقلقل رسوخها منصات التواصل الاجتماعي، ونمط استجابات الأفراد لأوقات الأزمات وكما تفعل جائحة "كورونا" بالكون كله، يدعم ذلك ويقويه غياب الوعي الحاد صانع التفكير والتأمل ثم التردد، وحيث تغيب منظومة الحساب الدقيق للربح والخسارة المباشرة، وتلمس الخطو على مدرجات التردد الفاصلة بين الموقف وضده، فيختلط لديهم الـ"توك توك" بـ"التيك توك" على إيقاع واحد.

إعلان