إعلان

أصحاب الهمم (19).. جنرال الموسيقى "2"

د طارق عباس

أصحاب الهمم (19).. جنرال الموسيقى "2"

د. طارق عباس
09:00 م الخميس 14 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عندما بلغ بيتهوفن العاشرة من عمره قرر أبوه أن يخرجه من المدرسة كي يتفرغ لدراسة الموسيقى، فانكب على سماعها والتعرف على أجناسها ومذاهبها وأهم المجددين فيها، وراح ينمي نفسه ويُطَور قدراته الموسيقية، حتى نجح خلال عامين فقط في نشر أول مؤلفاته ولم يكن قد تجاوز الثانية عشرة .

في عام 1784 التحق بيتهوفن بالإبراشية كعازف "أرغون" حرصًا منه على أن يضمن لنفسه دخلاً ثابتا يمكنه من إعالة أسرته والإنفاق على نفسه خاصة بعد أن أصيب والده – نتيجة إدمانه الكحول – بمرض عضال أقعده تمامًا عن العمل .

أمام ما أظهره بيتهوفن من تميز في إجادة آلة الأرغون، قررت الإبراشية إرساله إلى عاصمة الفن والثقافة في ذلك الوقت "فِيينا بالنمسا" والتي كانت قبلة الساعين للشهرة والراغبين في البحث لأنفسهم عن مكان تحت سماء الموسيقى، وخلال فترة وجيزة استطاع بيتهوفن أن يلفت إليه الأنظار بعزفه المتميز على آلة البيانو وأن يحظى بتشجيع أبناء الطبقة الأرستقراطية ممن وعوا قيمة موهبته وحرصوا على دعمها بكل السبل الممكنة حتى أصبح واحدًا من المتربعين على عرش الموسيقى .

في عام 1795 كان أول ظهور علني لبيتهوفن، بتأليفه كنشرتو للبيانو وقد قدمه بمصاحبة الأوركسترا على المسرح الملكي بالنمسا، وحظي بإقبال جماهيري منقطع النظير .

اُعتُبِرَت تلك السيمفونية بمثابة شهادة ميلاد فنية للرجل، وصُنِّفَ ضمن أكبر عازفي البيانو في النمسا، بعد ذلك توالت مؤلفاته الموسيقية ففي 1800 نُشِرَت سيمفونيته الأولى، والتي بلغت في رقي مستواها ما كان يبدعه "موتزارد وهايدن" وقد قال عنه الأخير: (إضافة لأنك تتمتع بموهبة فذة، فستبقى استثنائيا على الدوام في مؤلفاتك الموسيقية، ربما لأنك شخص غريب وكئيب بعض الشيء)، من المؤكد أن هايدن لم يقل ما قاله من قبيل الصدفة، فقد بدأت حياة هذا الشاب المبدع تطرأ عليها تغييرات تدريجية، أجبرته على أن يتحول من شخص سوي متزن منمق، إلى شخصية عصبية قاسية متهورة .

كان يغضب بسرعة، ولا يتردد في توجيه السباب والشتم إلى كل من قَصَرَ في عملية الأداء الموسيقي بل وينعتهم بأسوأ الألفاظ، وسر هذا التحول راجع إلى أنه عند بلوغه السادسة والعشرين، بدأت سطور مأساته المؤلمة، حيث راح يفقد السمع تدريجيا حتى أصبح أصم تمامًا على مدى السنوات التالية

في البداية كان بيتهوفن يشعر بأصوات في أذنيه ورويدًا رويدًا استعصى عليه التمييز بين الأصوات العالية والمنخفضة ثم أصبح يسمع صفيرًا مستمرًا بأذنيه ثم انقطع كل شيء وأصيب بيتهوفن بالصمم التام فتملكه اليأس والإحباط والعصبية الشديدة .

ورغم ما حققه بيتهوفن من شهرة كبيرة، فإن الحياة لم تنصفه وظل فقيرًا أكثر من نصف حياته، وذات مرة أوضح لأحد أصدقائه سبب غيابه الطويل عنه قائلا: (لم أكن مريضًا، لكن حذائي الوحيد تعتريه حمى شديدة، وعندما أتمكن من إصلاحه وبالتحديد عندما يُشفى من هذه الحمى ويتيسر لي حذاء جديد فلن أتردد في أن آتي إليك فورا) .

الغريب أنه عندما بدأت حياة بيتهوفن المادية تتحسن في أواخر حياته، قرر أن ينفق ما كان يكسبه على ابن شقيقه الذي اُبتُلِيَ باليُتم وهو على أعتاب الحياة، بعد أن تمكن الصمم تمامًا من بيتهوفن، أبدع أروع سيمفونياته على الإطلاق، "السيمفونية التاسعة"، والتي كانت بمثابة الإعجاز الموسيقي بالنسبة لمبدعي الموسيقى عمومًا، ولا شك في أن إبداع مثل هذه السيمفونية وهو أصم تمامًا لم تكن بالمسألة السهلة، فقد عانى الأمرين وهو يؤلف تلك السيمفونية ويُدرب الفرقة عليها، وحتى عندما خرجت إلى للنور، لم يتمكن من الاستماع لتصفيق الجمهور له بالإعجاب بما أبدع .

في يوم 26 مارس سنة 1827 رحل بيتهوفن عن العالم بعد إصابته بتليف الكبد، تاركًا لنا تراثًا موسيقيًا رائعًا كافيًا لتخليد اسم هذا الموسيقي العظيم.

إعلان