إعلان

والذى له فى الدنيا "فيس" ..

والذى له فى الدنيا "فيس" ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 28 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ما تضعه من كلمات أو صور على الفيس بوك هو ما تمنحه للعالم عنك راضيا، هو ليس مثلا ظهرا تعطيه أو بالأحرى "قفا" يفر غضبا أو زهدا أو ضيقا من البشر والأشياء تاركا إياها خلفه تمضى بلا رجعة، الفيس وبوكه بعض أثرك وشيء من بقاياك في الكون وهو تأريخك الذاتى لتجربتك فى الحياة تمضى فيبقى بعدك فى مدارات الفضاء السيبرانى حيا أبدا.

قد يمضي المرء ويبقي فيس بوكه وانستجرامه أحياء لمن أراد إليهما سبيلا، تلك الصور فى الأماكن ومع الناس ورأي الشخص فيما يجري واختبره أو سمع عنه، شكواه ومديحه، تقريظه ونقده، صدقه وادعائه، تزلفه ومخاصمته، هو سجل عما جرى، نحن هنا حقا أمام عشرات الملايين من الروايات المختلفة في دقتها ومرجعياتها وأسباب وتوقيتات طرحها عن أشياء وبشر العالم.
هل حمل التاريخ وحظى البشر بمنحة كهذه أبدا ؟!، حتى صارت مثل تلك الوسائط الاجتماعية وما تتضمنه هى أدلة الوجود وتأريخ للمكان والزمان وحركة البشر داخلهما كما لم تفعل من قبل الأسفار والحواديت والدواوين الكبيرة.
وبينما يقول المؤرخون أن كل كتابة للتاريخ تحمل أثرا من صاحبها ورؤيته وتحيزاته، فإنه لا تحتاج وسائط التواصل الاجتماعى إلى مثل تلك العبارات البليغة والمقدمات المدهشة هى تفعلها وفقط، حيث كل بروفايل وكل لقطة أو كتابة هى صاحبها وكل صورة هى ما اختاره ليظهر أو يحضر أو يبقى، كما أن كل تويته هى إحالة لفضاء وسياق ودلالة على موقف وحالة، وهى قول فى التاريخ الشخصى والجمعى لسكان كوكب الإنترنت الذى يسع مجرات لا تحتاج سفرا أو سرعة صوت أو سفائن قادرة على تحمل فقدان الجاذبية الأرضية.
لا يُقصر فضاء تلك الوسائط فى منح عاطفة ميزت تاريخ الإنسان، فهو ليس جامد القلب متحجر الشعور، فاللايك هو عطف سيبرانى متعارف عليه، تزينه القلوب والألوان وما يستجد، حتى ليبدو من صدق القول أنه من يعش بغير اللايك فى مستقبل الأزمان فسوف يمضي فى الحياة وكوكبها محروما وحيدا.
والصداقة على الفيس بوك صداقة عصرية أنيقة، تزيل كل إرهاق وتبعات آلاف الأمثلة التى حملها تاريخ الناس عن غدر الأصدقاء، فهى تتتحلى بخبرات التاريخ فلا تتيح تورطا فى القول أو فى القرب كما أنها تنتهى وتستعاد بضغطة واحدة، وهكذا يتكون مجتمع الأصدقاء يسيرا ويمضى متضخما مع كل مرة "accept" ويتم فرزها مع مضى الحياة بلا ثمة مخاطر إذ تمنحك ضغطة ال "unfriend" ارتياحا بإقصاء من كان فى قائمة الأصدقاء سهوا أو غفلة أو خطأ، بل أنها تمنحك ميزة إضافية بإزالة حضوره ومنحه عزلة إجباريا فلا تراه البتة بضغطة " block".
ومع كل بلوك يمكنك أن تغلق دائرة الاختلاف من حولك وتوسع من مساحة تكرار ما تحب أو ترغب فى الاستماع له أو باختصار فيوضات نفسك إذ يعبر عنها من منحتهم حق البقاء الآمن تحت مسمى "فريندز".
تتفنن الوسائط فى الجمع فى يسر بين طرفى الرغبات والاحتياجات البشرية، وتيسر ذلك فتصنع العادات وترسخها، ومن ثم يكون الحديث الدائر والدعوات العابرة بمخاصمة الفيس بوك والاستمتاع بالعودة الى الحياة الطبيعية والقرب الدافئ وحرارة ملامسة ومصافحة الأيدى والتقاط الكلمات من الأفواه ليست سوى مزيد من تأكيد على الضعف حيالها، وعدم القدرة على الاستغناء عن عالم هو يشبهك ويُصنع على عينك ويضم ما تعرف، بل هو يسبقك طائعا فيلبي تفضيلاتك، فمنذ أن تفتح رابطا أو تشاهد فيديو ما إلا وستكون خوارزمياته قد قرأت خريطة تفضيلاتك واتاحة ما يشبهه لك، لتجدها ظاهرة مع كل تصفح وكما لا يستطيع أن يفعل مثلا ذلك عفريت الفانوس السحرى، وأيضا بغير مشقة الإستماع إلى "شبيك لبيك".
يصنع البشر فى مسارات الحياة تيسيرات البقاء، أشياء تبدأ بسيطة وربما مفيدة، ثم تنفصل عنهم رويدا ليكونوا هم داخل دائرتها، هذا هو تاريخ الإعتياد، يبقى أنه لم يتم دراستها ثقافيا واجتماعيا، بمعنى دراسة أشكال الحياة وظواهرها كما تسردها برديات الفيس بوك وحوائط الإنستجرام ومفردات تويتر، دراسة الحياة على تلك الوسائط لا تقل شأنا أبدا عن دراسة الواقع، فتلك آثارنا باقية على فيس وتويتر تدل علينا.

إعلان