إعلان

باشوف الجزيرة!

باشوف الجزيرة!

أمينة خيري
09:00 م الإثنين 13 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

سمعت عبارة "باشوف الجزيرة" خلال الأسابيع الأربعة الماضية ما لا يقل عن 20 مرة، وذلك بلهجات إنجليزية مختلفة وعربية متفاوتة. في البداية، كان الانزعاج. لكن العبرة بالخواتيم، والخاتمة هنا هي نقطة البداية. فما الذي يجعل أستاذة جامعة مصرية مقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات، وأستاذاً جامعياً أمريكياً من أصل لبناني، وموظف استقبال أمريكياً من أصل مكسيكي، وطالب تاريخ الشرق الأوسط أمريكياً، وموظفة بنك بريطانية، ورجلاً أيرلندياً في العقد الثامن من العمر، وباحثة علوم سياسية بريطانية، وغيرهم يقولون عبارة "أشاهد الجزيرة" بطرق مختلفة وفي سياقات عدة؟

سياق الأحاديث خلال أسابيع السفر بين ولايات أمريكية ثم مدن بريطانية وأخيرًا "مؤتمر الحمامات" (الذي ينظمه المجلس الثقافي البريطاني سنويًا في تونس) دار في الأغلب حول مصر وسوريا والسعودية ولبنان واليمن وإيران وما يدور في المنطقة. وفي أغلب الأحاديث كان يذكر أحدهم "الجزيرة" (لا سيما الناطقة والمفكرة بالإنجليزية) باعتبارها "المصدر" الرئيسي لفهم مجريات المنطقة المشتعلة. ولأن الغالبية المطلقة من أولئك لا ينتمون لجماعة الإخوان (وإن كان بعضهم ما زال مستمسكًا بتلابيب فكرة أن المصريين انقلبوا على أول رئيس مدني ديمقراطي جاءت به الصناديق ألا وهو الدكتور محمد مرسي)، وحيث إنني من المؤمنين بمجابهة الفكرة بالفكرة ومناطحة النقاش بالنقاش، والنأي بالنفس عن الشرشحة والمعايرة، فقد وجدت نفسي في موقف نفسي وسياسي وإعلامي بالغ الصعوبة.

فمن جهة، كيف لي أن أشرح وأبرهن أن "الجزيرة" بوق أيديولوجي وسياسي لتوجهات بعينها؟ وكيف لي أن أحفر في أغوار ما وراء نشرات الأخبار، وانتقاء الأحداث، والدق على أوتار هنا وتجاهل تام لأوتار هناك، ودس السمِّ في عسل الحياد، وبث التوجيه والإرشاد في حلاوة التحليل الموضوعي؟ وكيف لي أن أمحّص وأفحص في الذكاء الشديد والحنكة الرهيبة والرؤية السديدة للقائمين على أمر "الجزيرة"، وما ومن وراء "الجزيرة" منذ سنوات بعيدة، والتي جعلت من "الجزيرة" صوتًا للموضوعية ونبراسًا للحيادية ودليلاً إرشاديًا للحقيقة؟ وكيف لي أن أفنّـد حداثيًا وتاريخيًا ما جرى في المنطقة العربية من هبّـات ربيعية تبعتها فورات إسلامية وجهادية وداعشية تمكنت من تقديم نفسها باعتبارها إما "إسلامًا وسطيًا جميلاً" قادرًا على إقناع الغرب بأنهم المنطقة الوسط الوحيدة المتاحة لدرء خطر المتطرفين عنهم، أو "إسلامًا راديكاليًا عنيفًا ناجمًا عن قهر الشعوب وإخفاق الأنظمة"؟

وكيف لي أن أشرح كل ذلك في دقائق قليلة أو حتى ساعات شحيحة وأنا لا أملك بديلاً أطرحه عليهم ليستقوا منه أخبار الشرق الأوسط، وتحليل ما يجري بلغة يفهمونها؟ وكيف لي أن أبيّن لهم أن ما نمتلكه من وسائل إعلام ناطقة بالإنجليزية لكنها فعليًا ناطقة بعقلية ومفردات ورسائل لا يفهمها ولا تتقبلها العقليات الغربية؟

فالمواطن الغربي لن يفهم المقصود بـ"القائد الملهم" أو "إخوان الشياطين" أو "جماعات الشر" أو "بلدنا نبنيها بإيدينا" أو "فيها حاجة حلوة" إلى آخر مكونات ونتاج موروثات لا نملك إعلاميًا سواها. "الجزيرة" تخاطب العقل الغربي بثقافته ومنظومته الفكرية وتركيبته النفسية وبالطبع بلغته الإنجليزية. صحيح أن السم قابع في هذا العسل، لكنه مدسوس بشياكة وأناقة تنافس كبرى بيوت الأزياء الفرنسية.

ورغم أن استلاب العقول أو على الأقل التأثير فيها لصالح مجموعات على حساب مجموعات أخرى ليست أمورًا بعيدة عن وسائل الإعلام الغربية، إلا أنها من ابتدع نهج "الجزيرة". التأثير على الناخبين، وتمييل الكفة السياسية لجانب على حساب آخر لعبة معقدة وصعبة، لكنها تحدث بحرفية بالغة عندهم.

ألم يحن الوقت بعد لننظر إلى "الجزيرة" بعين مختلفة؟ ألا يكفينا ما وقعنا فيه من عدم قدرة على توضيح واقعنا ومشكلاتنا وترك الساحة لمن يملكون الخطاب المفهوم والمفردات الحاذقة والإعلام المواكب للقرن الـ21؟

اللهم بلغت، اللهم فاشهد!

إعلان