إعلان

"البدو الرحالة".. كواليس التعايش على هامش الحياة (فيديو)

08:07 م الأحد 30 أغسطس 2020

معايشة وتصوير/ أحمد الشيخ

البدو.. كلمة عربية إذا ما طالعها أحدنا، أو لاحت بمخيلته؛ فإنه -دون مشقة ذهنية وبلا بحث منهجي- يقف على ذلك الشكل البدائي للحياة في كل مظاهره، وفي مدى ارتباطه بالبادية بحرّها اللافح الذى يذيب دماغ الضب، وبردها القارس الذى يعقِد ذنَب الكلب، وصولا إلى ذلك النوع الأوحد والمستقل من الثقافة عابرة الحدود، والتي تمتد يقينا خارج النطاق الجغرافي لمجموعة أو مجموعات منها.

وهنا رصدت الكاميرا في إحدى قرى دلتا النيل المصرية بمحافظة كفر الشيخ "البدو الرحالة" ولحسن الحظ هذه المرة، وهم يدقوا أوتاد خيامهم البسيطة؛ بعدما قطعوا المسافة نفسها عبر أمكنة تصارع أحلام يقظتهم فيها بالعثور سريعا على البقعة الملائمة للرعي وإضفاء طقوس حياتهم عليها زمانا لا يكاد يتحرك، ككل مرة يوشكون أن ينزلوا فيها بأرض تحيا بهم ويحيَوْن بها، وذلك خلال رحلتهم التي تطوى العام كله شهرا خلف شهر؛ بحثا عن موطئ قدم تغدو وتروح بين الماء والكلأ.

مع بزوغ أول خيط للضوء.. تنهض السيدات أولا، ويتنقلن على تلك الرقعة الواسعة من الأرض الممتلئة بأغراضهن.. كل واحدة منهن تعرف مَهماتها، وما يطرأ ترشدهن إليه كبيرتهن وهي السيدة (سُلومَة)، امرأة قوية البنيان دائمة الابتسامة شخصيتها حاضرة في كل التفاصيل؛ سواء إذا تعلق الأمر بشئون الرعية أو العمل.

لا تقف الحكايات عند حدود الشكوى من سوء الحال بإشارات تدعم ما تحكيه عن أطفال يرثون الكد وقلة التعليم، والملابس الرثة كابرا عن كابر. حتى إن أراد غريب أن يقتحم حياتهم لدقائق، لا يحتاج إلى شرح أو تفسير، لكن ذلك لا يمنعهم من حضور العفوية واستحضار واجب الضيافة.

دقائق قليلة.. ويستيقظ الرجال تباعا، ينهضون لمباشرة أعمال الرعي بعد تناول الفطور الذى يُعد وعناصرهم الرئيسية "اللبن والشاي".

يحكى السيد (سلامة) -الذى يبدو علي مشارف الستين- عن الكثير من تفاصيل حياتهم.. عن كيفية تنقلهم من مكان إلى آخر؛ حتى أنه حكى عن أسفار قطعوها مشيا خلف ماشيتهم، وقد عبروا الحدود بين مدينة وأخرى، بل من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب؛ طلبا لطعام الماشية حسب مواسم الزراعة ونوعية المحاصيل في كل منطقة.

تطرق الرجل إلى أصولهم العِرقية التي تعود إلى إحدى قبائل وعشائر شبه الجزيرة العربية؛ والتي تسمى (قبائل الشام) والتي وصلت إلى مصر وعاشت بها منذ أكثر من قرن أو قرن ونصف تقريبا، أما هم فينحدرون من "قبيلة عرب مطير" كما أشار هو وزوجته إلى منظومة التقاليد التي تحكم المجتمع البدوي، ونظام الخِطبة والزواج والمهور، ومدى تشابك المصاهرة القبلية والنسب، والذي يشير ضمنيا إلى أن نظام الزواج في هذه المجتمعات هو ما يمثل العلاقات السياسية فيما بينها ومعاهدات الحماية والدفاع المشترك.

تناول حديثهم بعض الحكايات عن طقوس أعراسهم، والأغاني والفنون التي توارثوها عن أسلافهم، وعن مظاهرهم الخاصة وما يتعلق بها كحياكة الملابس؛ خاصة كيفية تطريز ملابس السيدات والفتيات.. ولم يخلُ كلامهم من الدخول إلى العالم المجاور لهم، وكيف يكابدون مشقة الترحال وشظف العيش وسوء أحوال أطفالهم، بحسب تعبيرهم.

هؤلاء الناس قد ألفوا ذلك النوع من الحياة الشاقة، و قد تكيفوا مع كامل ظروفها.. قبلوا حياة العراء بما يأتي به نهارُها من القيظ الشديد صيفا والأمطار والرياح الشديدة شتاء، وبما قد يفاجئهم به ليلُها من معارك لم يعدّوا لها عُدّتها؛ فيشهدون عالمهم المشيد وقد أضحى هشيما تذروه الرياح، وقد اجتثت أركانه رحى حرب ضروس لم يملك المعتدَى عليه من أسلحتها سوى نباح الكلاب.

حين تراقب (ليلى) و(حُسنة) اللتين تسعيان ذهابا ومجيئا بين أطراف تلك الرقعة من الحقول، تطعمان الحيوانات والطيور، وتحلبان الأبقار والشياه، وتعتنيان بالأطفال والرضع، وتطهوان طعام العشيرة، وتشعلان النار في جوف حفرة تسع لزير من الفخار يستخدم كفرن لإعداد الخبز؛ بإلقائها يداها بداخله على أحد جوانبه وتثبيت الخبز بعصا لأقل من نصف دقيقة... تدرك معنى الرضا والتصالح مع الذات، ومفهوم التضحية الذي هو نفسه جوهر الأخلاق التي تحل بمنزلة المحرك لآلة هذا المجتمع ضمن النسق المتكامل لمبادئه وأعرافه.

إن تفانيهما وتنقلهما بملابسهما المزركشة بألوان صيفية تشبه حمرة وجنتيهما وضحكة ثغريهما.. يعكس صورة السعادة المقرونة بالرضا الحقيقي، والفطرة الطيبة، عفوية السلوك وبساطة الطموح.

فيديو قد يعجبك: