إعلان

3 أيام في المعتمدية| قصة "القرية المعزولة " بسبب كورونا

04:54 م الأحد 12 أبريل 2020

قرية المعتمدية

تقرير - مارينا ميلاد

9 إبريل - اليوم الثاني لعزل القرية

خرج مصطفى من مستشفى العزل بالعجوزة، وصار واحدًا من الـ348 حالة الذين شفُوا تمامًا من فيروس كورونا – حتى ذلك اليوم. استقل "تاكسي" ومعه حقيبة ملابسه، حتى وصل به إلى منطقة أرض اللواء؛ التي لا يفصلها سوى 10 دقائق فقط عن قريته "المعتمدية". نزل وأوقف "توتوك" من هناك، وعلى غير العادة لم يذهب به إلى بيته، بل تركه على الطريق الدائري، على أن يكمل طريقه مترجلا، فقريته أصبحت "معزولة" لمدة 14 يومًا بعد اكتشاف إصابات أخرى غيره.

يعرف مصطفى ما حدث لقريته من متابعته الأخبار أثناء وجوده بالمستشفى، وهو ما أفسد فرحته بسلبية نتائج تحاليله، وأنه سيخرج، ويرى أسرته، ويعود لعمله. لكنه الآن ليس متابعًا من بعيد إنما في الواقع نفسه؛ يستأنف علاقته بقريته من جديد، ويعرف حقيقة ما سمعه وقرأه عنها وقت غيابه.

93054412_664378227711006_6247282179756261376_n

وصل الرجل مرتديًا كمامته إلى الحواجز الحديدية التي تغلق مدخل القرية، المحاطة بقوات الأمن. كان ابناه الاثنان وزوج ابنته بانتظاره خلف الحواجز. اعترضه أحد أفراد الأمن، ومنعه من الدخول؛ فأبلغه بأنه من أهل القرية وخرج لتوه من الحجر الصحي بالمستشفى؛ ليفاجئه برد فعل لم يتوقعه ويصرخ فيمن حوله: "ابعدوا عنه"، ثم يسمح له بالدخول بعدها.

ظل مصطفى منزعجًا من الموقف الأول الذي بدأ به لقاءه بقريته: "حسسوني إني رجل موبوء!"، لكنه ترك الأمر يمر، ومشى مع أسرته الذين صافحهم باليد فقط بحسب تعليمات المستشفى. كانت الشوارع والبيوت حوله هادئة لدرجة لم يعتدها في هذه الساعة التي تزدحم قبل بدء ساعات الحظر الليلية.

عرف من أسرته، وهم في طريقهم، أن الوضع لم يكن بهذا الشكل تمامًا أمس، حكوا له كيف فاجأتهم الصورة في أول أيام تطبيق عزل القرية.

8 إبريل - اليوم الأول لعز ل القرية

صورة 1

استيقظت القرية التي تتبع مركز كرداسة بمحافظة الجيزة على مشهد مفاجئ لأهلها بعد أن أحيطت بكردون أمني، بناء على ما أعلنته المحافظة بأنها ستخضع لحجر صحي.

ربما لم يدرك الجميع ما يفترض عليهم فعله؛ فبدت الأجواء غير مقنعة أبدًا بوجود حجر صحي؛ فازدحم سوقها برجال وسيدات وأطفال؛ يتبادلون مع الباعة المنتجات، وما بين عشرات قد تجد أحدهم مرتديًا كمامة. تتداخل أصواتهم معًا، ثم يصيح أحد الموجودين: "الناس هنا لا يهمها كورونا ولا غيره المهم عيالها تاكل".

كان ذلك واضحًا أيضًا في مشهد نفاد كمية الخضار التي تحملها سيارة أحضرها أشخاص من القرية، بعد أن تهافت الناس على الشراء مبكرًا، بحسب محمد حمدي، الذي استغل إجازته الاضطرارية من شركته لمساعدة أهل القرية، والاتفاق مع غيره على جلب هذه السيارات من سوق العبور "بسعر الجملة".

فيما جلست سيدة مسنة تبكي بجوار مكتب البريد الذي وجدته مغلقًا وقتها، لتأخر حصولها على مبلغ 346 جنيها جاءت لأجله، فهي تعيش به طوال الشهر.

وبالتزامن، سلك رجال القرية الذين يعملون باليوم الواحد طرقًا فرعية وزراعية لا يعرفها قوات الأمن ليخرجوا إلى أعمالهم.

Google maps

أخيرًا؛ وصل مصطفى إلى بيته بعد 10 أيام قضاها ما بين مستشفى حميات إمبابة ومستشفى العزل بعدها. جلس ملتزمًا بمسافة متر بينه وبين زوجته وأبنائه الثلاثة الذين يعيشون معه، وقرر ألا يخرج على الأقل لمدة 15 يومًا، نصحه الأطباء أن يتوخى خلالها الحذر.

كان هذا اليوم أفضل أو ربما أكثر تنظيمًا من سابقه على القرية، حيث صرف المواطنون حصصهم التموينية، اتفق الأشخاص الذين يتولون مسؤولية سيارات الطعام على كميات جديدة على أن يضعوا قواعد عند البيع بأن يأخذ كل شخص ما يكفيه، وصلت سيارات الـATM المتنقلة، فتح البريد أبوابه، واستطاعت السيدة المسنة أن تحصل على ذلك المبلغ التي تنتظره.

Graphic

عاد مصطفى ليمسك هاتفه ويتابع الأخبار على مجموعة أهل القرية على "فيسبوك" الذين يتحدثون عنها أولا بأول. شعر بالضيق لكثرة الكلام الخطأ والسلبي عن "المعتمدية"، قريته التي ولد بها قبل 53 عامًا: "الكلام علينا كله بقى تنمر وده مصطلح كمان خفيف، ده لأننا بقينا مركز للشائعات!".

ما يعنيه مصطفى هو ذلك السيل من الروايات والتفاصيل المتضاربة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، المواقع الإخبارية، والبرامج التليفزيونية، واعتمدت على أحاديث نواب عن تلك المنطقة، وتشير إلى أنه كان هناك فرح ومأتم بالقرية تسببا في إصاباتها.

لا أحد متيقنًا من شيء، لكن على الأقل يمكن العودة إلى أصحاب القصة نفسها؛ وهم أسرة "حسين"، الذين أقاموا الفرح والعزاء اللذين شهدتهما القرية مؤخرًا.

يعطي حسين (32 سنة) - وهو منفعل - وصفًا سريعًا لما قيل: "كل اللي بيتقال كدب والله والناس مشيت ورا السوشيال ميديا واللي عايزين يشتهروا"، ثم بدأ يسرد روايته التي يقول إنها "الحقيقة".

كان يوم 19 مارس، عندما أقام شقيقه كتب كتابه ونقل الأثاث إلى بيته الجديد في حفل حضره نحو 40 فردًا في شارعهم بالقرية: "كلهم من أهلنا. مفيش حد من حالات الإصابات الغريبة عننا كان موجود".

أيام ومرضت شقيقته الكبرى، التي تبلغ من العمر 39 عاما، لحصولها على علاج للتخسيس يتعارض مع حساسية الصدر الموجودة عندها. تم احتجازها في مستشفى الصدر، وأجريت لها فحوصات لم تبين أنها مصابة كورونا، لكنها توفيت بعد 4 أيام في يوم 28 مارس.

خرجت شهادة الوفاة مذكور فيها السبب المباشر: هبوط في الدورة الدموية وتوقف في عضلة القلب نتيجة التهاب رئوي. ويقول أخوها إنه تم تغسيلها ودفنها بالطريقة العادية.

وبناء على ذلك، تأجل الفرح الذي كان محددا له 26 مارس، وألغيت كل الحجوزات التي تم ترتيبها منذ شهر ديسمبر الماضي.

كان العزاء في اليوم الثاني للوفاة (29 مارس) - وهو المأتم المشار إليه - فأوضح حسين أنه لم يحضر سوى عدد قليل قد يكون 15 شخصا فقط من العائلة، وكل ما احتاجه الأمر بضعة كراسي أمام البيت وليس "صوانًا كبيرًا".

لكن والدة عروسة أخيه غابت عن حضوره بسبب مرضها، الذي – حتى وقتها – لم يشكوا بأنه ليس عاديًا.

يومان تقريبا، واشتد مرض هذه السيدة، لكن لم تكن وحدها، حيث شعرت شقيقته الصغرى (28 سنة) بضيق تنفس، فذهبا إلى المستشفى نفسه، واكتشفوا إصابتهما بكورونا، وتم نقلهما إلى مستشفى العزل بالعجوزة يوم 1 أبريل، وهو يوم مصطفى الأول في المستشفى نفسها أيضًا.

لم تعرف أسرتهما مصدر إصابتهما. وعلى كل حال؛ تمت الإجراءات المعتادة، وتواصل أحد أفراد الوحدة الصحية معهم، وأبلغهم بعزل أنفسهم. التزموا جميعا، وحصل حسين الذي يعمل مندوبا للشحن على إجازة، عقموا بيوتهم، واتفقوا أن شخصا واحدا يخرج لشراء الطلبات. لكن ذلك لم يمنع أن تفسر القصة كلها على أن "أختهم الكبرى توفيت بكورونا، ونقلت العدوى إلى الآخرين".

واليوم، تنتظر أخته الصغرى نتائج تحاليلها، بينما خرجت والدة عروسة أخيه من مستشفى العزل.

صورة 2

لا يعرف مصطفى أسرة حسين، فيؤكد أنه "واحد من المصابين، ولم يحضر فرحا ولا عزاء، ولم يخالط حالات الإصابة الأخرى".

بسؤال أكثر من شخص بالقرية عن حالتي الوفاة المعلن عنهما، صار واضحًا أن حالة الوفاة "الوحيدة" المؤكد إصابتها بالفيروس بالنسبة لهم هو الحاج سيد محمد، الذي يعرفه مصطفى جيدًا لأنهما يصليان معًا في نفس المسجد، لكنه يقول إنه "كان يكتفي بالسلام عليه من بعيد، دون قرب".

إلا أن أسرة الحاج سيد تقول إن "نتائجه قد تحولت إلى سلبية قبل وفاته، وفقا لما أبلغهم به مستشفى العزل، والتقرير الطبي الصادر عنه".

وعن هذا الأمر يوضح صلاح إبراهيم (32 سنة)، يعمل في مجال الكمبيوتر، أن عمه كان يعاني من أمراض أخرى منها القلب، وأصيب بنزلة شعبية دخل على أثرها مستشفى الحميات لأيام وثبتت إصابته بكورونا، لينقل إلى مستشفى العزل يوم 25 مارس، ثم تحسنت حالته، وتحولت نتائجه إلى سلبية، لكنهم فوجئوا بوفاته في اليوم التالي (5 إبريل)، ولم تقيم أسرته عزاءً.

وأكد صلاح أن الرجل الذي كان يبلغ 75 عاما، لم يحضر أفراحا ولا عزاءات وليس له علاقة بالإصابات الأخرى.

صورة 3

10 إبريل - اليوم الثالث في العزل

بدت القرية هادئة تماما بعكس يومها الأول، خاصة أن السوق أغلقت في هذا اليوم (الجمعة).

كان الصباح الأول لمصطفى في بيته. أبلغه ابنه، وهم يتناولون فطورهم، بأن شبابا متطوعين من أهل القرية قاموا بتعقيم الشارع هنا، ووزعوا كراتين مواد غذائية على الأسر المحتاجة وصلت من جمعيات وأشخاص داخل القرية وخارجها.

لم يكن في يوم مصطفى أي جديد إلا في نهايته؛ فوصله خبر سيئ بأن سيدة حاولت الخروج من القرية من على الطريق الدائري وصدمتها سيارة، وأن الوحدة الصحية بالقرية مغلقة، تلك الوحدة التي يراها "قليلة الخدمات" – حتى وإن كانت مفتوحة: "إزاي إحنا في حجر صحي؟! أنا مشفتش دكتور ولا حد جالنا يوعي الناس ولا اتكشف على حد أو اتعمل تحاليل حتى لو عشوائية. كل الموضوع كردون أمن محاصر القرية".

وعند سؤالنا محمد منصور، وكيل وزارة الصحة في الجيزة، عن آلية عمل وزارة الصحة في القرية، اكتفى برد مقتضب: "خصصنا سيارات تجوب المنطقة لتوعية الناس لكن منع حركتهم شق أمني ليس اختصاصنا"، ولم تشر وزارة الصحة في بياناتها الرسمية – حتى اللحظة – إلى المعتمدية أو تطور الوضع داخلها.

فتح مصطفى نافذته وقتما حل السكون على القرية ليلا. صمت قليلا وتأمل تلك اللحظة الاستثنائية التي تعيشها قريته، ولم يشهد ما يماثلها طوال حياته بها. تأمل تجربته الصعبة والتي لم يُخيل له أن يتجاوزها ويقف الآن في بيته.

فعاد بذاكرته إلى مساء آخر يوم في مارس الماضي عندما ذهب في السادسة صباحًا إلى حميات إمبابة وحرارته مرتفعة، وتأكده هناك من إصابته، ثم نقله إلى مستشفى العزل حيث سريره وسط اثنين وضع لهما جهاز التنفس؛ حتى تركهما وأقام فيما وصفه بـ"كابينه زجاجية" وهي مساحته الآمنة بعدما تحولت نتائجه إلى سلبية.

بعد كل ذلك لم يعد فارقًا معه أن يعرف مصدر إصابته، فالأمر بالنسبة له بسيط بقدر تعقيده؛ فهو يعمل سائق تاكسي يلتقي كل يوم بأشخاص مختلفة، الوضع الذي لا يستطيع معه تحديد شيء.

- أسماء بعض الشخصيات مستعارة حفاظًا على خصوصية الحالات.

- اعتمدت جميع المعلومات المذكورة على سؤال أكثر من شخص من أهل القرية.

- لمعرفة أعداد الإصابات وحالات الوفاة حول العالم.. طالع الخريطة التالية

فيديو قد يعجبك: