إعلان

بعد 28 عامًا على زلزال 1992.. رحلة البحث عن أكثم (الحلقة الخامسة)

04:43 م الجمعة 16 أكتوبر 2020

عمليات البحث عن مصابين بين حطام عمارة الموت – تصمي

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب – أحمد الشمسي:

تصوير – حسام دياب:

كان الحديث مع الأطباء مُمتعًا، كونهم عرفوا تفاصيل دقيقة عن حالة أكثم، رغم مرور 28 عامًا على الحادث.. قررنا العودة إلى شجرة العائلة مرة أخرى علَّنا نجد فيها ما يدُلنا على أكثم.

في شجرة العائلة كان هناك مجموعة من الأسماء تشمل "عائلة" أكثم، خالته نازك، ابن خالته فاروق الجوهري، بنت خالته سهام الجوهري، إضافة إلى آخرين، منهم على سبيل المثال والداه اللذان لقيا مصرعهما في زلزال 1992، سميرة محمود والدة أكثم التي كانت تعمل في إدارة كهرباء شُبرا، فيما كان والده مديرًا عامًا بالسكة الحديد، حتى شقيقته الدكتورة إلهام إسماعيل، والتي كانت من أوائل الناجين من الحادث المأساوي، كونها كانت تقطن في الطابق العاشر، على عكس شقيقها "أكثم" الذي كان في الطابق السابع.. أسماء بحثنا عن معلومات عنهم للوصول إليهم لكن دون جدوى.

من خلال شجرة العائلة، حالفنا الحظ مع شخص واحد، وهو نابغ عبدالقادر؛ الذي عرفتهُ الصحف –آنذاك- بأنه الصديق المقرب لأكثم.

ما إن تضع اسم "نابغ عبدالقادر" على محركات البحث؛ حتى لا تجد عنه شيئًا يُشير إلى مكانه أو مهنته، بحثنا عنه بشكل أعمق من خلال صلاته بعائلة الجوهري -الذين هم في مقام أخوال أكثم-، وصلنا إلى طريق مسدود، ثم بحثنا عنه بالإنجليزية، فكانت نتيجة وحيدة قادتنا إلى موقع كلية مصر للعلوم التكنولوجية، وطالبة من الأوائل، تُدعى نيرة نابغ عبدالقادر، التي ربما تكون ابنته وربما ليس لها صلة بما نبحث عنه.

ضيقنا مسار البحث، وركزنا جُهدنا صوب "نيرة"، وجدنا لها حسابًا على موقع "فيسبوك"، لكن الحساب غير نشط منذ فترة كبيرة، ولكنه كان الأمل الوحيد، بعثنا إليها برسالة تحوي مضمون التحقيق الصحفي الذي أعده، على أمل الحصول على رد، وانتظرنا طويلاً.

بعد مرور أسبوعين، تواصلت مع "نيرة" عبر نفس الحساب مرة أخرى، لكنها لم تكن قد قرأت الرسالة الأولى. وصلت إلى طريق مسدود، وضربت رأسي التخمينات، ربما تكون غير نشطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ربما تكون ليست لها صلة بـ "نابغ" من الأساس.

بحثت مرة ثانية بطريقة أخرى، وهي حذف اسم نابغ من مؤشرات البحث، مع الاحتفاظ باسم نيرة عبدالقادر أو نيرة نابغ، وكان البحث باللغة الإنجليزية، توصلت بالكاد إلى نتيجة وحيدة لفتاة تُدعى "Naira n….."، حساب ظهر لنا على "إنستجرام" لفتاة تشبه ملامحها صورة الحساب الآخر الذي راسلناه مُسبقًا، نسخنا الاسم كما هو بالضبط، ثم بحثنا عنه على فيسبوك؛ اكتشفت أن "نيرة نابغ عبدالقادر"، لديها حساب آخر على فيسبوك، إضافة إلى الحساب غير النشط الذي كنا نُراسلها عليه. بعثتُ بنفس رسالتي إليها وانتظرت، لكن هذه المرة لم يطُل الانتظار، حيث ردت علينا خلال يومين بكلمات أثلجت القلب: "أرجو إرسال رقم التليفون الخاص بك وسيتواصل أبي معك إن شاء الله"، راسلتها: "ده معناه إن والدك هو المهندس نابغ عبدالقادر زميل أكثم؟"، لترد: "أيوه وهو ابن خالة أبي".

لم يتصل المهندس نابغ عبدالقادر، قررت التواصل مرة أخرى مع ابنته "نيرة"، مستأذنًا إياها أن تُعطيني رقم هاتفه، على أن أتواصل أنا معه وليس العكس، أرسلت ليَّ الرقم، وتواصلت معه على الفور، وحددنا موعدًا للمقابلة.

كانت السيارة المرسيدس تحتاج إلى "سمكرة ووش دوكو"، يتعامل المهندس نابغ دائمًا مع أحد الصنايعية الماهرين بمنطقة "الظاهر"، العقارات بتلك المنطقة كان معظمها قابلًا للانهيار، على واجهات مُعظمها مُعلقة لافتات تحذيرية من الحي: "احذر.. هذا العقار صادر له قرار إزالة....". ترك "نابغ" سيارته، وذهب نحو منطقة وسط البلد، وتحديدًا شارع الألفي، حيث كان مرتبطًا بموعد عمل مع أحد المقاولين "المهندس سيد أحمد"، استقر "نابغ" في الطابق الـ14، وبعد دقائق حدث الزلزال: "لقيته قايم يجري ناحية السلالم.. قلت له لأ اقعد.. ده فيه 400 بني آدم ع السلم دلوقتي.. يعني لو نزلنا السلم هيُقع بينا كلنا"، يتذكر نابغ الزلزال جيدًا: "كانت العمارة بتتشال وتتهبد"، الرعب تخلل نفوس الجميع، نطق "نابغ وصديقه الشهادتين، الاتصالات انقطعت، ولم يجد سبيلا للتواصل مع أسرته حيث يقطن بمدينة 6 أكتوبر.

ذهب "نابغ" مُسرعًا صوب منطقة الظاهر، كان متأكدًا أن الزلزال ربما دمر المنازل القديمة هناك، وأنه سيرى سيارته "متساوية بالأرض": "دخلت الشارع.. لقيت العربية اللي قبلي معجونة على الأرض.. والعربية اللي بعدي حجر واقع عليها وجايب سقفها ونازل بيها.. وأنا عربيتي مفيهاش خربوش.. ستر ربنا الحمد لله".

صوب مدينة نصر؛ اتجه للاطمئنان على والديه، وعلم من أصدقاء قابلهم أن أسرته بمنطقة 6 أكتوبر بخير، لكن مع نشرة أهم الأنباء علم أيضًا أن عمارة أكثم قد انهارت.

يسكت نابغ قليلاً، يتنهد، ثم تدمع عيناه، ينظر بثبات نحو أحد جدران الشقة، وكأنه يُشاهد فيلمًا سينمائيًا، قبل أن يقول بصوت مكتوم: "أنا دلوقتي تذكرت الأحداث بالضبط". حينما علم "نابغ" بما أحدثه الزلزال بعمارة "أكثم" وأنه تحت الأنقاض، لم يشك قط في أنه ما زال حيًّا، ظل يُقسم بالله: "والله وحق لا إله إلا الله.. يمين أُحاسب عليه ليوم الدين.. من ساعة ما عرفت الموضوع وأنا يقين في قلبي إن أكثم لم يمت".

كانت الأيام التي تلت الخبر شاقة ومُرهقة على أهل "أكثم"، خاصة المهندس نابغ، الذي كان يتردد بين الفينة والأخرى من أجل معرفة آخر الأخبار، من نجا؟، ومن قضى نحبُه؟ ومن ينتظر؟، لكنه لم يقلق أبدًا؛ لأن يقينًا بداخله يقول له إن أكثم سيخرج حيًّا من تحت الركام مهما طالت المدة.

"أكثم هو ابن خالة أمي.. والدته كانت زميلة والدي في كلية الحقوق جامعة عين شمس.. كنا بنصيف مع بعض وإحنا صغيرين قوي.. لما الواحد كبر واتجوزنا.. كل واحد فينا اتلهى في حياته"، يقول "نابغ".

أمام شاشة التليفزيون؛ كان يجلس "نابغ"، مُتكئًا مستريحًا بعد تعب يوم شاق في عمله بالمقاولات والبناء، فيما طلّ من خلال الشاشة مذيع يسرد أهم الأنباء، ليأتيه بخبر "أكثم"، لقد وجدوه حيًّا، تسمر المهندس قليلاً، ثم فزَّ سريعًا، أمسك مفاتيح سيارته، وظل يركض على السلالم؛ ليذهب صوب مصر الجديدة، ولم يكن يعيّ أنه يرتدي "الفانلة الداخلية"، كان كل ما يتملك تفكيره "أكثم" فقط، حتى الطريق الذي يحفظه عن ظهر قلب، من أكتوبر إلى مصر الجديدة، نسى ملامحه؛ ليجد نفسه أمام بوابات نادي الحرس الجمهوري، شاهد الحُراس رجلًا أمام بوابتهم يرتدي الفانلة الداخلية ويقود سيارة مرسيدس فارهة: "يا إما حرامي يا إما معتوه"، رد عليهم "نابغ" على الفور: "قلت لهم أنا فلان الفلاني ومن الحتة الفلانية.. وشرحت لهم الموضوع.. وتفهموا الوضع الملخبط"؛ ليصل أخيرًا إلى وجهته: "كانت الدنيا زحمة جدًا قدام مستشفى هليوبوليس.. الناس كلها عاوزة تشوف قصة الراجل الحي الميت اللي طلعوه من تحت الأنقاض بعد 82 ساعة"، رآه أكثم عن قرب، وجهه مليءٌ بالحبوب وجسده منفوخ، لم يكن هو الآخر واعيًا لشيء، وكأنه قادمٌ فعلًا من الموت، يُحرك يديه وقدميه وعيناه تزوغ بين الحين والآخر، كأنه جسدٌ بلا روح.

علم "نابغ" بعدها القصة الكاملة، فكيف يُصبح ويُمسي رجلٌ شاهد أحباءه يموتون أمامه، وابنته الصغيرة، التي كانت تشتهي البيبسي والشيكولاتة، ثم مرت بمرحلة خرف نتيجة حُمى أصابتها، ثم ساد صمتها؛ ليعلم أبوها أن طفلته قد رحلت كما رحل الباقون، والداه وزوجته.

بعد أن أنهى "أكثم" الفحوصات الطبية، داخل مستشفى هليوبوليس، ثم بعدها العجوزة، سافر إلى ألمانيا، من أجل عملية جراحية في عظم القدم: "كان محتاج يركب شرايح ومسامير"، ثم أهداه الشيخ زايد –رئيس دولة الإمارات- وقتها، 500 ألف درهم؛ ليشتري بها "أكثم" قطعة أرض زراعية على طريق "بلبيس".

يتذكر "نابغ" أن ابن خالته أطلق لحيته بعد الحادث، وتزوج مرة أخرى، ولديه أولاد، لكن التفاصيل غير كاملة، بسبب عدم تواصل الطرفين منذ عام 1995، حيث ذهب الاثنان وقتها في رحلة حج: "كان عنده حالة من الوجوم.. دايمًا ساكت ويُركز فقط في العبادة"، كان يعتقد "نابغ" أن هذه الحالة نوعٌ من الزُهد، لكنه عاد وأكد: "أكثم كان مُتعديًا لمرحلة الزُهد، كان راضيًا جدًا بقضاء ربنا وقلبه فعلاً مُطمئن".

- لمَ لمْ تتواصل مع "أكثم" طيلة تلك السنوات العديدة؟.

= يُشير المهندس بيديه صوب أحد جدران شقته، يُزينها صورة لشاب في أواخر العشرينات، قبل أن تُرقرق عيناه الدموع: "ده ابني وحيد.. اتوفى في حادث سيارة.. من ساعتها الحقيقة بحاول ألهي نفسي في الشغل ومشاغل الحياة.. كانت الظروف للأسف أصعب مني...".

يحبس "نابغ" مشاعره، قبل أن ترتسم ابتسامة على وجهه بأن "أكثم" إن شاء الله حيٌ يُرزق.

- هل لأكثم رقم هاتف أو عنوان سكن؟.

= هناك شخص يُدعى "مُسعد هوجان" أرسله لي أكثم في التسعينيات حتى يعمل معي في شركة المقاولات، وهو الذي كان يتواصل بشكل مستمر مع "أكثم" طوال فترة ما بعد الزلزال: "أكيد هو معاه تليفوناته.. ويعرف مكان سكنه".

يتفحص "نابغ" هاتفه، لإيجاد رقم "مُسعد"، يتصل به، فيجد أن الرقم خاطئ، وعدني بإحضار رقمه الحالي كونه همزة الوصل بـ"أكثم".

قبل أن ننُهي حديثنا، تذكر المهندس نابغ "عزومة" في بيته أقامها على شرف أكثم بعد زواجه: "بعد ما اتجوز تاني.. جه هو ومراته هنا.. وكنا عازمينهم.. وكان وقتها مُلتحي"، وقتها لم يدر الحديث حول الزلزال وما حدث: "خلاص بقى مبقاش فيه مجال أفتح معاه السيرة دي.. لأنه كان بيجاهد عشان يُكمل حياته".

أنهينا حديثنا بالسلام على أمل الوصول إلى "مسعد هوجان"، لكن خلال حديثنا مع "نابغ" أكد لنا أنه لم يتواصل مع "مُسعد" منذ ما يزيد على العشرة أعوام، حتى أنه ألقى جُملة: "الله أعلم حي ولا ميت"، فهل سننجح في الوصول إلى "مسعد"، وإن وصلنا إلى طريق مسدود، ماذا سنفعل؟.. تابعوا الحلقة السادسة لمعرفة ما حدث..

اقرأ أيضًا:

لقراءة جميع حلقات رحلة البحث عن أكثم.. اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: