إعلان

في العوينية.. مصراوي داخل بيت أشهر عائلة لحل نزاعات الثأر بالصعيد

10:32 م الإثنين 09 ديسمبر 2019

الشيخ تقادم أحد أشهر رجال التصالح في قضايا الثأر ب

كتب- محمد مهدي:

تصوير- حسام دياب

على جَمر النار تبقى القلوب متقدة، لا يعلن الحزن عن نفسه، يختبئ خلف غضب يكسو الوجوه الصامتة، القتل لن يَمر دون مزيد من الدماء، هكذا يبدو المشهد حينما يسقط قتيل من إحدى العائلات في صعيد مصر، يلوح الثأر بثقله وكآبته، لكن حضور الشيخ تقادم بن أحمد بن محمد الليثي، أحد أشهر رجال الصلح في وجه قبلي، يُطفئ النيران المستعرة، يشق الرجل الثمانيني الصفوف بعكازه، فتتابعه الأعين أينما حلّ، له هيبة ورهبة ومحبة، يجلس بين المتنازعين فيطمئنون إلى حكمه، يُلقي كلمته فتنتهي الصراعات مهما طالت، لذلك صارت أسرته واحدة من أشهر العائلات المكلفة بحل نزاعات الثأر في الصعيد.

في قَرية العوينية بمركز إدفو بمحافظة أسوان، توجهنا إلى الشيخ الكبير، حيث يعيش في بيت كبير بسيط، يحتفظ بالهيئة ذاتها لـ"المضْيفَة" التي يستقبل فيها ضيوفه منذ تشييدها قبل عقود طويلة، بحثًا عن إجابات عديدة عن الأسرة ، كيف بدأت مسيرتهم مع حقن الدماء بين العائلات، طقوسهم وخطواتهم في التعامل مع حالات الثأر، سِر قدوم الناس إليهم من محافظات عدة من أجل الاحتكام إلى رأيهم، كيفية تدخل الرجل الثمانيني في أعتى الأزمات ليحل بدلًا منها السلام، أشهر الوقائع التي جرت على أرض الصعيد، وأسرع المصالحات التي تمت رغم الدماء.

1111

منذ عقود مضت تربى الشيخ تقادم في كنف الأب والجد، عُرف عنهما بذل طاقتهما في الإصلاح بين الناس، تلجأ إليهما عائلات الصعيد لفض الاشتباك حينما تتعسر الأمور، كانت للأسرة قيمتهما ومكانتها في هذا العالم، قبل أن يتوفى الأب تاركًا المسؤولية لابنه- تقادم- وهو لايزال في سن العشرين، امتدت نحو الأيادي لتكليفه باستكمال مسيرة عائلته "الإصلاح بيد الله، هو صاحب الأمر من قَبل ومن بَعد" هكذا يقول الرجل الثمانيني لمصراوي، عن شعوره الدفين تجاه الخطوة التي جرت له منذ أكثر من 40 عاما.

اعتاد الشاب حينها على استقبال الجميع في "المضْيفَة" حين وقوع عراك بين العائلات وسقوط ضحايا بينهم، ينصت لهم بآذان صاغية، يتأمل الحقائق، يدوّن في عقله تفاصيل الحادثة، يحاول تهدئة النفوس الزاعقة، يتعرف على مطالب أهالي القتيل، يُجري لقاءات عدة بكافة الأطراف، يداوم على إقناعهم بترك السلاح واللجوء إلى الأعراف والصُلح "ببدأ الحديث في أي موضوع بالأخذ والعطاء، والصبر على اللي زعلان لأنه بيكون شايل شيء تقيل أوي" يتأنى كثيرًا في إطلاق رأيه، يحتاج إلى مشاورة لجنة من الأهالي، ثم يقول كلمته الأخيرة "فيه كتير من الناس بيكون عندهم رأفة وقبول بالنصيحة، وربنا في الآخر هو اللي بيهدي النفوس، وبيخليهم يتقبلوا كل اللي بيتقال براحة وموافقة".

2

ذاع صيت العائلة أكثر مع الخطوات الناجحة لـ "تقادم" في دنيا المصالحات، منحه ذلك مزيدًا من المسؤولية، إذ صارت قضايا الثأر في المرتبة الأولى بجانب رعايته لبيته وأعماله "لأنه بيعتبر دا تكليف، مهما كانت المسألة فيها إرهاق بس دا قدره" كما يقول ابنه الشيخ إسماعيل تقادم الذي يرافقه دائمًا في مجالس المصالحات، ومع مرور الزمن امتدت الاشتباكات التي تدخل من أجل إيقافها لخارج نطاق محافظة أسوان "بيجينا ناس من الأقصر وقنا وسوهاج والإسكندرية والقاهرة، وغيرهم من المحافظات، ودا يمكن ثقة الناس وبإن الوالد ميفرقش معاه قريب أو غريب، المهم الحق فين".

الصبر أيضًا صفة لازمت الشيخ تقادم طوال سنوات تدخله في قضايا الثأر "ممكن نبقى وصلنا لنقطة ممتازة بين العائلات، ونحدد مراسم الصلح وكل الإجراءات ثم تطلع حكاية تعطلنا شهرين تلاتة" يغضب الناس، تثور اللجنة المُشكلة لحل النزاع، لكن الرجل الثمانيني يتصرف بهدوء "كويس إنها ظهرت دلوقتي، لأنها لو ظهرت بعد إتمام الصلح وكانت قاعدة في النفوس هتسبب مشاكل أكبر" قد تحتاج بعض الأزمات إلى سنوات عديدة لا يجزع فيها أو يمل "فيه مشاكل احتاجت أكتر من 15 سنة عشان نلاقي حل، وكنا بنتابع دايمًا ونأكد على الالتزمات بين الطرفين بعدم الاحتكاك" يطول الانتظار نتيجة لانتظار المتهمين لقضاء مُدة حبسهم "وبعد خروجهم بيحصل الصلح النهائي".

3

للمصالحات قواعد وآليات لا تتخلى عنها أسرة الشيخ تقادم "أول ما بتحصل واقعة قتل، مبيكونش فيه كلام مع صحاب الدم، لأنهم معذورين وقتها" يكتفي الرجل الثمانيني وأولاده بالمواساة "بنروح مرة ولا اتنين، بتبقى مجابرة خواطر" وبعد أيام يطالبون الأسرة الغاضبة بتحديد الطرف الأصيل في المشكلة من العائلة الآخرى "ثم يتم الفصل بينهم عشان ميحصلش احتكاك أو مواجهة من أي نوع" يُنظر إلى الأحكام القضائية ومسارها "وبيبقى قدامنا خيارين، انتظار المسجون لما يطلع، أو اختيار بديل من العيلة عشان يقدم كفنه" يدور ذلك بعد محاولات عدة لإقناع أهالي القتيل بالابتعاد عن إشعال المزيد من الفتنة والاحتكام إلى العقل.

يُكلف الشيخ بلجنة مُستقلة من كبار العائلات للاستماع إلى كافة الأطراف، ثم يجلس معهم من جديد، ولا يكل من المحاولات إفشاء السلام حتى تتكل بالنجاح "على طول نحدد معاد الصلح ونرتب مع مدير الأمن ونشوف ظروف الجميع" ثم تُشكل لجنة أخرى خاصة بمراسم التصالح "بتبقى من المنطقة نفسها اللي هيُقام فيها مؤتمر الصلح" مهمتهم الأساسية هو تنظيم الحدث بكافة تفاصيله سواء تجهيز المكان والصوان وتحضير الذبائح والاتفاق مع الطهاة والمقرئ، والحفاظ على النظام خلال إتمام الأمر "مكونين من 12 شخصاً، هما بيتعاملوا مع مجموعات أصغر بيتم تقسيمهم على كُل مهمة".

44444

يحضر الشيخ تقادم أو أفراد أسرته إلى المنطقة المتفق عليها في التاسعة صباحا "لمراجعة التجهيزات النهائية، وحضور الناس وصاحب الحق" ثم يغادرون المكان في طريقهم إلى الطرف المُختار لتسليم كفنه "بنكون جبنا مقرئ قعدناه يتلو القرآن لحد ما نرجع لتهدئة النفوس" يعودون برفقته على بُعد 100 متر من مراسم الاحتفالات "بننزل نتحرك معاه وهو شايل كفنه، المقرئ يصدق أول ما يشوفنا، بندخل لحد المنصة" يُمسك رئيس لجنة الصُلح لينادي على أهالي القتيل، يُصبح الطرفان في مواجهة بعضهما "صاحب الكفن يسلمه ويقول هذا حقكم، فيرد التاني (نخن عفونا عنه لوجه الله ورسوله" يُكبر الحضور ويتعانق الجميع بينما تُقرأ الفاتحة ويستمع الحضور إلى كلمات الشيخ "تقادم" ثم المسؤولين الذي جاءوا لإتمام الخطوة.

لحظة شاهدة على سعادة لا توصف تغمر الجميع خاصة الشيخ "تقادم" وأسرته "مجرد ما الناس خدت بعض بالأحضان وسلموا على بعض، كل التعب يروح وبيتمسح" جهد شهور طويلة يتكلل بوقف نزيف الدماء بين عائلات الصعيد وفتح صفحة جديدة بينهما "بتصل أحيانًا للمصاهرة وتكون هناك صلة رحم بينهم بدل القتل والدم" تتهل أساريره حينما يفاجأ بحضورهم إلى منزله بعد سنوات عديدة ويستعيدون معه الذكريات الصعبة "بنسلم الأمر لله وهو المُدبر لأفضل نتيجة".

خلال عقود، مر على الشيخ تقادم قضايا لا حصر لها، بعضها اتسم بالغرابة في طلبات العائلات التي فقدت أحد أفرادها، شهد على ذلك ابنه الأكبر الذي يساعده دائمًا في المصالحات، الشيخ "كمال" وابنه الشيخ إسماعيل. يقول الأخير "مرة طرف طلب إن صاحب الكفن يشيل الشاش من رأسه ويلفه حولين رقبته ويقوده بيها في الشوارع، لكن رفضنا، مش ممكن نعمل الحكاية دي، فيها تحقير لا يمكن السماح بيه" ومن الوقائع التي لا ينساها الابن الأصغر حينما نجحوا في إقناع شاب بتلقي الكفن من خصمه بعد وفاة والده في مشاحنات "لكن طلباته كان فيها شروط تعجيزية" احتار الجميع فيها.

5555

أصر الشاب على قدوم الطرف الثاني سيرًا من مسافة بعيدة "وإنه ياجي حافي وخالع جلبيته" عجزت اللجنة عن إبعاده عن تلك الأفكار، فأتى بهم الشيخ تقادم إلى المضْيفَة "ونظر للشاب، قاله الحق دا في مين؟" صمت لثوان قبل أن يجيب "في أبوي" ليرد الشيخ "عشان يسد في أبوك ينفع يسوي كدا؟ بالعكس، لازمن ييجي بلبس أحسن ما عنده وبوضع يسويه مخصوص عشان اللي راح غالي" لمعت أعين الفتى قبل أن يقول "الرسالة وصلت يا مولانا، اللي هتقوله هنفذه ولا كلمة تاني بعديها" وعلى الفور تمت إجراءات المصالحة.

العند والمكابرة أكثر ما يتسبب في خسائر بين عائلات الصعيد ويُبطئ وتيرة التصالح، لكن الرجل الثمانيني كان يبحث دائمًا عن حلول مختلفة لإنهاء المشكلة "مرة اتعطلت قضية على طلب كل طرف إن القعدة تبقى عنده، ودي في عرفنا إن صاحب القعدة هو صاحب الحق" أصر الاثنان على ذلك فتوقفت المفاوضات لكن الشيخ تقادم طلب الاجتماع مع خمسة من كُل عائلة "قالهم المسجد اللي على أول البلد دا بتاع مين؟" فأجاب الحضور "بتاع ربنا" ليستمر في حديثه "يبقى لا هنتقابل عندكم ولا عندهم، احنا هنقعد في بيت ربنا، حد فيكم عنده اعتراض" سكت الجميع واضطروا للموافقة "أما الواجب فهيكون مرتين مش مرة واحدة، قعدة عند كل واحد فيكم بعد إتمام الصلح" وانتهت التجربة على أكمل وجه.

6

أسرع مصالحة تمت في تاريخ العائلة، احتاجت إلى 29 يوما "حصل فيها مجهود كبير" ذات يوم أفضى شجار إلى مقتل شخصين وإصابة 4 في الليلة التي تسبق شهر رمضان الكريم "بلغت والدي كان في القاهرة، ساب كل حاجة وركب عشان يرجع البلد" كما يؤكد الشيخ إسماعيل. تم استدعاء مجموعة من كبار الأهالي "شوفنا دول زراعتهم فين ودول بيوتهم فين وعملنا خريطة مين يفوت فين عشان ميتواجهوش حتى لو بالصدفة في الشارع" وصل الشيخ فجر اليوم الأول من رمضان "كنا قلقانين المشكلة تطور لأبعد درجة فروحنا على العائلات نهديهم ونأكد عليهم يلتزموا الهدوء" كان هناك تخوف من وصول العيد قبل التصالح "لأن بيكون فيه مولد كبير والكل بيتجمع وساعتها صعب نفرق بينهم".

ظل الشيخ وأبناؤه يوميًا يذهبون إلى أصحاب القتلى، ويعودون للطرف الثاني، محاولات كبيرة ودائمة ويومية للم الصدع بين الأسرتين "وبقى فيه خطوات جدية على أرض الواقع" يخرج الرجل بعد الفجر إلى القرية التي شهدت الحادث، يعود إلى بيته ساعات الفطار وبعد الصلاة ينطلق إلى هناك من جديد "لحد ما تمكنا بإرادة الله من التوفيق بينهم، وتم الصلح يوم 28 من رمضان، ودي تعتبر أقل فترة خصومة حصلت في الصعيد كلها".

7

اختلفت أسباب الثأر قديمًا عن الفترة الحالية، تستشعر ذلك أسرة الشيخ تقادم "زمان كان فيه أسباب قوية، لكن دلوقتي ممكن ناس تموت وتكتشف إنه مفيش سبب حقيقي" خفتت عادات هامة كان لها بالغ الأهمية في جلسات التصالح "الأول كان شخص واحد ينوب عن العيلة في الكلام، دلوقتي ممكن تلاقي أكتر من شخص عايز يقول رأيه ويتدخل ومحدش يقدر يوقفه" فيما تعتب الأسرة على الأعمال الفنية التي تتطرق إلى قضايا الثأر في الصعيد "فيها أخطاء كبيرة، وحاجات بعيدة عن الواقع" لكنهم في الوقت نفسه يلتمسون لهم الأعذار "عشان بيأخدوا المعلومات من بعيد معاشوش اللي احنا بنعيشه" تلك الحياة التي تعتقد الأسرة أنها مسؤولية كبيرة لابد من تحملها إلى النهاية وتوارثها عبر الأجيال.

فيديو قد يعجبك: