إعلان

الحجاج الصغار.. ذكريات المشهد العظيم "من فوق كتف بابا"

03:45 م الأربعاء 22 أغسطس 2018

الحجاج الصغار

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-شروق غنيم وإشراق أحمد:

تصوير-خالد الدسوقي/ Afp:

طيلة قرابة 17 عامًا، كلما أُذن للحج، تداعت الذكريات على إبراهيم محمد عناني، يستعيد الشاب العشريني تفاصيل سكنت روحه؛ رؤيته للزحف الأبيض من فوق كتف أبيه، الطواف وسط زحام شديد لا يضيق منه أحد، منزلهم في "منى" الذي كان قبلة الحجيج من الأقارب والمعارف، التخييم في العراء، وسط جبال وحرارة لا يخففها سوى دعوات الواقفين على صعيد عرفات، وغيرها من مشاهد لم تكن حينها لطفل دون العاشرة سوى مغامرة، انكشفت معانيها لما كبر.

لا يغيب الصغار عن مشاعر الحج، يرافقون ذويهم من ضيوف الرحمن، يؤدون معهم المناسك، ويحملون لقب الحاج وإن كانت أعمارهم لم تبلغ سن التكليف بهذا الركن بعد، لكنها تظل ذكرى امتنان للأهل لا تُنسى.

إبراهيم.. الحج رضيعًا وضيوف الرحمن في المنزل

وُلد إبراهيم في مكة المكرمة، حيث عاش والده 20 عامًا، فكفل له ذلك التواجد بين الحجيج هو وأخوته الأربعة. حملته أمه بين يديها رضيعًا لا يتجاوز أربعة أشهر، وطافت به البيت المعمور، فقد حضر صاحب السابعة والعشرين عامًا إلى الدنيا منتصف شهر شعبان، ومنذ ذلك الحين لم يفته الحج حتى عاد إلى مصر بعدما أتم المرحلة الابتدائية.

ارتبط موسم الحج لدى إبراهيم بمكانين، الأول منزلهم الواقع في منطقة "منى"، إذ كان أشبه بـ"فندق مجاني" كما يصف الشاب. يتذكر كميات طعام هائلة التي يجلبها والده لتطهيها والدته للحجيج الضيوف من الأقارب والأصدقاء والمعارف "لدرجة في سنة ذبحنا 20 خروف وفي سنة تانية ذبحنا 5 جمال"، لا يقول الشاب ذلك تفاخرًا بل امتناناً لأبيه المتوفي، الذي علمه أول دروس الحج "استحالة أقفل بيتي في وش حد أو يكون معايا نعمة ومشاركهاش".

أما المكان الثاني، أثناء أداء المناسك. لا يتذكر إبراهيم الإعداد للمشاعر المقدسة، لكن يحفظ جيدًا صورة إحرامهم في المنزل "بنلبس الإحرام قطعتين ونخرج بعربية بابا". بالنسبة لطفل صغير يقضي أغلب الوقت في البيت، كان الأمر "فسحة كبرى" خلاف الفرحة المعتادة بالذهاب للمسجد الحرام أسبوعيًا، وشراء المثلجات وشطائر الشاورما ثم العودة بالحافلة. ففي الحج يطول البقاء ويتسع مدى لملمة التفاصيل.

قبل شد الرحال للحج، تذكره والدته بالتعليمات، بأن يحكم قبضته على يديها كي لا يتوه بين الزحام، ولا يتحدث لغريب، غير أن أكثر ما تأثر به إبراهيم "أني مقتلش أي حاجة حتى لو نملة ودا مازال في شخصيتي. لو قتلت نملة أزعل" يقول الشاب مبتسمًا.

لم يكن الحج يسيرًا على إبراهيم، السير لمسافات طويلة مرهقة لطفل دون العاشرة، لا يخففه سوى رؤية وجوه مختلفة من شتى بقاع الأرض "كنت بحس بالمتعة وأنا بشوف كل الجنسيات، الهندي، والأوروبي والمصري والخليجي. الكل سواسية وكم تراحم كبير وصادق جدا" يصف الشاب مشاعره وقتها.

انتظر إبراهيم أيام الحج كانتظار العيد، ليس فقط للخروج، ففي المنزل يستقبل الضيوف، الذين يبادلونه اللطف واللعب، فيما تكتمل بهجته باحتمالية جلب أحدهم له كتابًا جديدًا يشبع شغفه بالقراءة.

احتفظ الشاب بما رآه طيلة سنوات حجه صغيرًا، حتى السلبي منها، يأسف لمشهد الأرز واللحم الملقى في الشوارع الذي ظل عالقًا بذهنه، ويبتسم باستعادة رجم البعض "لأبليس" بالأحذية والشمسيات، فيما يمتن للحظات توليه مهمة جمع الحصى لأداء نسك رمي الجمرات، وقصص والدته له عن مغزى الذبح، وطالما تأثر إبراهيم بذلك، خاصة لحمله اسم خليل الله.

إلهام.. الحج من فوق كتف بابا

إلهام، شقيقة إبراهيم، هي الأخرى ذهبت إلى الحج مرات عدة، لكنها تحفظ ع ظهر قلب تلك المرة الأخيرة، التي ذهبت بمفردها مع والديها، حينها كانت تبلغ ستة أعوام.

كما تقص عليها قصص قبل النوم، شرحت والدة إلهام لصغيرتها ما هو الحج، كانت الأم مهتمة أن تفهم ابنتها ما يدور، لماذا يفعل قرابة 2 مليون شخصًا نفس الخطوات في نفس اللحظة.

جهز الوالد سيارته، وضع بها الطعام وخيمة، ثم بدأت رحلتهما نحو عرفة، ومعها تشكلّت ذكريات إلهام مع الحج ومناسكه.

وكأنه منبع الخير كله، هكذا رأت عين إلهام المكان "فيه ود وإحساس بالأمان غير عادي الناس كلها بيساعدوا بعض، اللي بيوزع وجبات وعصاير وحلويات وألبان وألواح تلج وماية ساقعة، كل الخير اللي ممكن نحلم بيه كان متحقق قصادي".

راقبت إلهام، ذات 21 عامًا، ما يفعله والديها؛ دعاء واستغفار لا يغادر ألسنتهما، قراءة قرآن وتضرع، قشعريرة سرت في جسد الصغيرة "الناس كلها بتدعي ربنا يغفرلها وهي بتعيط".

في التنقل من مكان لآخر داخل مكة، كانت والدة إلهام حريصة على أن تفهم ابنتها ذلك "قالت لي ده مكان اسمه المزدلفة"، رهبة تملكت قلب الصغيرة "سألت بابا المكان ده عامل كده ليه ومين ملاه حجر ؟".

بهدوء أخذ يشرح والدها تفاصيل الرجم، ولماذا يلتقط كافة المسلمين هناك الحجارة وقذفها تجاه المكان "دخلنا وسط الزحمة وكنت قصيرة ومش شايفه حاجة، بابا رفعني على كتفه واتخضيت، رهبة غريبة حسيتها وحماسة دبت في جسمي وقتها إن ده الشيطان ولازم أعاقبه".

كان يحاول جسدها الصغير أن يجد مكانًا وسط كل هذا الحشد الأبيض، لا تزال تتذكر إلهام المشهد، نظرة الحُجاج لها وهي ابنة الستة أعوام "ناس من جنسيات مختلفة بتوقفني تبوس وتحضن فيا ويقلولي إني طفلة مبروكة".

لم تكن تتدرك إلهام كل ما يدور حولها، فقط شعور داخلي غمرها، بدد توترها من الزحام، وجعل لها أمنية واحدة قالتها حينما أخبرتها والدتها أن تدعو، فدعت الصغيرة ألا تغادر هذا المكان. أبدا.

هناء تصحب ابنتيها "عشان لما يكبروا احكيلهم"

خلاف آل عناني، كانت هناء محمد وصغارها على موعد مع أول حج لها في التسعينات، تحديدًا عام 1995 اصطحبت السيدة ابنتيها معها إلى مكة، لم تقوَ على السفر دونهما، غير أن سعادة تملكتها لأن صغارها سيشاركان ببراءة في التجربة.

كما كانت تستعد للحج، أخذت هناء تُعلِم ابنتها الأكبر ذات الأربعة أعوام معنى الحج، ببساطة تشرح لها المشاعر المُقدسة "وحفظتها إزاي تلّبي عشان تقول معانا"، فيما كانت بنتها الأخرى لا تزال في عمر السبعة أشهر "مش مدركة طبعًا حاجة بس حبيت تبقى معايا عشان لما تكبر أحكيلها".

ظلت الدهشة رفيقة الابنة الأكبر، لأول مرة ترى هذا الكّم من البشر، في نَفَس واحد تنطلق حناجرهم مُلبيّة، مشهد مهيب لم تكن تستوعب كافة تفاصيله لكنه أثار فضولها نحو مزيد من الأسئل.

تحكي الأم الأربعينية أن صغيرتها لم تكف عن الاستفسارات بعفويتها "هو الناس دي كلها مش هتروح بيتها زينا يا ماما؟"، فيما كان ينال منها التعب في لحظات "طيب إحنا هنمشي إمتى، فكنت أنا وباباها نحاول نضحكها، أو نقولها بصي في أطفال زيك قاعدين مبسوطين أهو، لأننا في بيت ربنا ده أحلى من بيتنا".

في طواف الإفاضة حاولت هناء وزوجها التخفيف عن صغارهما، اتفقا على أن يؤدي كل منهما ذلك بمفرده بالأطفال وينتظر حتى عودة الآخر ليأخذ دوره.

رغم الرحلة المُجهدة لكن الصغيرة كان لها بهجة وسطها "كانت فرحانة باللبس الجديد، عباية بيضا منقوشة بورد"، فيما لم تندم هناء على قرارها "لآخر لحظة كنت مبسوطة إنهم معايا، شايفين ناس من كل الجنسيات، وكل موسم حج جديد بفكرهم واحكيلهم لما كانو هناك من ٢٣ سنة".

كبر الصغار. لم تتمكن هناء وابنتيها من الحج ثانية، كما عاد آل عناني إلى مصر، وتخرج الشقيقان في الكليات، ووجد إبراهيم فرصة عمل في السعودية، ورجع إليها مرة أخرى، لكنه مازال يدعو الله أن يعيد وشقيقته الحدث، يأسا على ما فاتهما من التقاط صور تحفظ لهم الذكرى، غير أن عزائهم ظل في تعلق أرواحهم بالتجربة، فتقول إلهام "من وقتها وأنا عارفة إنه إحساس تاني مش ممكن بني آدم يحسه في أي مكان. الحج مش مجرد مناسك بنأديها أد ما هو إحساس بأن الروح مبسوطة".

فيديو قد يعجبك: