إعلان

مأساة يارا.. عايشت انفجار مرفأ بيروت: "أتخيل أي شيء جثة"

11:37 ص الأربعاء 04 أغسطس 2021

مجموعة صور مأخوذة عن الانترنت لانفجار مرفأ بيروت

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

(بي بي سي):

بعد تفكير وتردد، وافقت يارا ملحم على أن تشاركنا تجربتها.

قبل يوم مناللقاء اتصلت لتبلغنا أنها ستأتي برفقة اثنين من أصدقائها. هم الثلاثة في العشرين من أعمارهم.

كانت بحاجة لكثير من الدعم المعنوي لتقوم بخطوة تتطلب منها جرأة كبيرة: العودة للمرة الأولى منذ عام إلى موقع انفجار المرفأ.

"أشعر بخوف وحزن. لم تكن تلك أبدا تجربة جميلة٬ وأثّرت في لمدى حياتي. لا تزال حتى اليوم تزورني كوابيس مرعبة وأسترجع ما عشته وما رأيته وما سمعته". تقول يارا٬ وهي تنظر إلى موقع الانفجار في المرفأ وإلى صوامع القمح التي، وإن كانت لا تزال واقفة، فهي مهدمة.

يارا، مثلها مثل أشخاص كثر في لبنان بعد انفجار الرابع من آب/ أغسطس، تطوعت مع الدفاع المدني. عندما سمعت دوي الانفجار في ذلك اليوم، وقد هرعت إلى المرفأ وكانت مع أولى فرق الإغاثة التي شاركت في عمليات الإنقاذ.

يومها استمرت في مساعدة الضحايا بشكل متواصل حتى صباح اليوم التالي. ثم عادت إلى منزلها بساقين ملتهبتين ومحترقتين من لهب النيران. تلك كانت آخر مرة تقوم بها بمهمة إغاثة.

"لم أعد قادرة على الاستمرار في العمل الإغاثي. ما رأيته في ذلك اليوم، الناس التي تصرخ طالبة المساعدة ولا أحد قادر على مساعدتها، الوجوه التي أتذكرها بكل تفاصيلها .. كل هذا لن أتمكن من تخطيه".

جثث في كل مكان

بعد الانفجار بفترة٬ باتت يارا عاجزة عن الأكل أو النوم أو حتى الخروج من المنزل.

ولم يقتصر الموضوع على ذلك. باتت تتخيل أي شيء تراه بأنه جثة.

"كنت عندما ألتفت أتخيل جثثا على الطرقات. وبينما أنا في السيارة مع أصدقائي أبدأ فجأة بالصراخ لأني أتخيل أي شيء جثة أو ضحية يناجيني لمساعدته."

رفضت يارا أخذ أي أدوية لتهدئة الأعصاب، وقررت مواجهة حالتها ومحاولة تخطيها بنفسه، "ولكني لا أزال حتى الآن أشعر بالخوف خصوصا عندما أكون وحدي في الظلمة".

ذكريات الحرب تستفيق

إلياس البيم أكبر سنا من يارا، إنه في التاسعة والثلاثين من العمر، وهذا يعني أنه عايش جزءا من الحرب الأهلية اللبنانية التي انتهت في العام 1990.

كان بالقرب من منطقة المرفأ، في الأشرفية، عندما سمع دوي الانفجار. أمضى ساعات يحاول الاتصال بشقيقته للاطمئنان عليها وهو يمشي دون هدف.

لم يكن ضحية مباشرة للانفجار لكن ذلك لم يمنع انقلاب حياته بعد ذلك اليوم، فقد أعادت إليه مشاهد الدمار التي رآها ذكريات دفينة لم يكن يعرف أصلا أنها لا تزال في ذاكرته.

"تذكرت الرائحة التي ظننت أني كنت نسيتها كليا، رائحة الموت. هذا المزيج من رائحة الحريق مع رائحة اللحم الميت".

واستفاقت الذكريات: المنزل القديم أيام الحر٬ الناس المجتمعة في الطابق السفلي، الشمعة، أصوات القنابل والانفجارات.

"تذكرتُ خالي الذي كان يحاول تهدئتنا، فيقول لنا باستمرار: إذا سمعتم صوت القنبلة، فهذا ممتاز. القنبلة التي تصيبكم لن تسمعونها".

انفجار الرابع من آب كان بمثابة منعطف في حياة إلياس.

"فجأة شعرت أن حياتي لم تعد تسير بخط مستقيم بحسب الخطط التي وضعتها لنفسي. كل تصرفاتي تغيّرت. أصبحت عصبيا جدا. لم يعد أصدقائي يتعرفون عليٌ. صرت أنزوي وأخبئ وجهي بين يدي. وبتٌ كلما أسمع صوت ألعاب نارية أرتجف وأصرخ بشكل هستيري."

عند هذا الحدٌ التجأ إلياس إلى معالج نفسي.

"بدأت الآن أستعيد نفسي. لكن القرار لم يكن سهلا في البداية. أن يقبل الانسان على نفسه أنه بحاجة إلى مساعدة نفسية ليست مسألة سهلة. ثم هناك تلك الوصمة التي لا تزال مرتبطة بالصحة النفسية. حتى بين أبناء جيلي٬ وخصوصا في المجتمعات الشرقية التي ترى أن الرجل يجب أن يكون متماسكا ولا يبكي ولا يكبت مشاعره".

"أرفض التأقلم مع الوضع"

هديل لدكي٬ هي أيضا تشعر بغضب كبير على المجتمع، ولا سيّما من يقول لها إنه عليها تجاوز الصدمة وإن الانفجار حصل منذ عام وحان الوقت لتمضي قدما في حياتها.

"أتمنى لو كان بإمكاني فعل ذلك. أنا غاضبة جدا من الناس ومن ردود الفعل التي لم أكن أتوقعها".

هديل في السابعة والعشرين من عمرها. كانت في السيارة مع صديقتها قبالة المرفأ عندما وقع الانفجار.

"كل ما أذكره أني لحظتها ما عدت أسمع شيئا وأن واجهة السيارة كانت فوقنا وكان هناك زجاج في رأسي."

مشت هديل مسافة طويلة مع صديقتها بحثا عن ملجأ.

"كنا ضائعتين. نمشي ونركض ونرى أشخاصا وقد غطتهم الدماء وجثثا وكنت أنا أنزف ولا أعرف من أين يسيل الدم."

لاحقا اكتشفت هديل أنها أصيبت برضوض في الرأس. لأشهر عاشت بحالة من الإنكار وكانت تشعر أنها بخير٬ إلى أن ضربتها الصدمة والاكتئاب والأرق.

"لم أعد أتعرف على نفسي. كيف يمكنني أن أمضي بحياتي مع حمولة بهذا الثقل؟".

لا تفهم هديل كيف يُمكن للناس أن يكملوا حياتهم بعد كل شيء. "أنا أشعر بالغضب. لا أريد ان أتأقلم".

ترفض هديل المنطق الذي يقرن بين ما يمر به الناس منذ الانفجار وزمن الحرب لإظهار أن الحرب كانت أصعب وأنه يمكن تخطي ما حدث. تنتقد بشدة تلك الأسطورة السائدة في المجتمع عن القدرة الخارقة للبنانيين على التكيّف مع الأزمات.

"عندما تكون البلاد في حالة حرب، تكون القنابل متوقعة، ولكن ما حدث كان خارج أي توقعات!".

في اتصال مع إحدى ضحايا انفجار بيروت التي فقدت يدها وتهدّم منزلها ذاك اليوم، تحدّثت عن الحالة النفسية الكارثية التي تعيشها بعد أن باتت ضيفة عند شقيقتها.

قالت إنها قليلا ما عادت تشاهد الأخبار وهي تعلم أن لديها صورا من ذلك اليوم التقطها أقرباء له، صور لها وهي مضرجة بالدماء، وصور لمنزلها المدمّر.

عندما سألتها إن كانت لا تزال تحتفظ بتلك الصور، قالت إنها لم تشاهدها يوما ولا تريد أن تشاهدها أبدا.

في هذا السياق٬ ومع اقتراب الذكرى السنوية لانفجار بيروت٬ انتشرت دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لحثّ الناس لعدم نشر صور الانفجار مجددا وبنطاق واسع احتراما لمشاعر الناس الذين لا يزالون يعانون نفسيا من آثار هذا الانفجار عليهم.

من هم الذين يعانون من هذه الآثار؟

بالنسبة ليارا٬ الجميع تأثر بشكل او بآخر٬ حتى من كانوا بعيدين عن الانفجار.

" أن يرى المرء بلده ينكسر أمامه٬ هذا جرح لا يمكن معالجته ابدا".

أما إلياس فيعتبر أن جميع الناس في البلد " إن هم أدركوا ذلك أو لم يدركوه"٬ هم متأثرون بما حدث.

"نحن في بلد مضروب من كل النواحي وليس فيه أي شيء سليم٬ جميع سكانه متضررون".

تلازم الأزمات

من الصعب جدا عزل انفجار الرابع من آب عن الانهيار المتواصل التي تعيشه البلاد في مختلف المجالات المعيشية والاقتصادية مع ما يرافق ذلك من تراجع الخدمات والخوف من فقدان مواد أساسية. ثم هناك طبعا وباء كورونا.

كل ذلك يزيد جدا من منسوب الخوف والأرق وعدم اليقين عند السكان.

جمعية Embrace التي تُعنى بالصحة النفسية أطلقت٬ منذ سنوات، وبالتعاون مع وزارة الصحة في لبنان خطا ساخنا للدعم النفسي والوقاية من الانتحار.

بعد الانفجار تضاعفت أعداد المتصلين الذين يطلبون دعما نفسيا.

"الأعداد تزيد يوما عن يوم"٬ تقول ليا زينون من الجمعية.

قبل عام كان عدد الاتصالات يُقدّر بخمسمائة إلى ستمائة اتصال. اليوم بات المتطوعون في الجمعية يتلقون أكثر من ألف اتصال شهريا. وفي معظم الأحيان يتحدث الناس عن شعور بالاكتئاب والصدمة والقلق والخوف من مستقبل مجهول.

"يمكننا أن نقيس الأثر النفسي لما يعانيه الناس٬ عندما يقولون لنا إنهم بصحة جيدة جسديا ولكنهم ليسوا على ما يرام نفسيا"، تقول ليا. "يعبّرون عن حالتهم بالقول I am ok but I am not ok!"

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: