إعلان

فيروس كورونا: هل يمكن أن يقضي الوباء على فيروس الإنفلونزا؟

02:54 م الثلاثاء 20 أكتوبر 2020

أرشيفية

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

لندن- (بي بي سي):

يبدو متنزه سيرا دو ديفايزور الوطني، الذي يشغل مساحة شاسعة من حوض نهر الأمازون في أقصى غرب البرازيل، من أعلى كغابة مترامية الأطراف، تتوارى خلفها شلالات وأنهار وبراكين خامدة وقرى صغيرة.

وفي هذا المكان، يعيش الحيوان المدرع (الأرماديلو) العملاق وحيوانات التابير والنمور المرقطة، جنبا إلى جنب مع قبائل أصلية معزولة لا تخالط العالم الخارجي كشأن أسلافها منذ نحو 32 ألف عام.

لكن منذ عام 2014، لم تعد الأمور كسابق عهدها في إحدى هذه المجتمعات المعزولة، إذ فرّت مجموعة من أفراد قبيلة "سباناوا" هربا من هجوم عنيف تعرضت له قبيلتهم من عصابات التحطيب عبر الحدود في بيرو، ودخلوا إلى قرية تعيش فيها قبيلة أخرى خالطت الحضارة الحديثة منذ عقود مضت. وبعدها أمضت هذه المجموعة ثلاثة أسابيع بصحبة أفراد من هيئة "فوناي" الحكومية التي تحمي الشعوب الأصلية من العالم الخارجي.

وتتميز القبائل التي تعيش في غابات الأمازون عن سائر القبائل في أوجه عديدة، منها أن تتحدث لغات قديمة غير معروفة، وتسودها المساواة، والأهم من ذلك أنها تعد من بين المجتمعات القليلة في العالم التي لا تعاني من الأمراض التي تصيب سائر البشر، فبعض القبائل المعزولة لا تعرف نزلات البرد أو الإنفلونزا أو غيرها من الأمراض الخطيرة مثل الحصبة.

ولم تكد تمضي أيام حتى أصيب الكثيرون من أفراد قبيلة سباناوا بعدوى تنفسية خطيرة، ربما تكون الإنفلونزا، وعانوا من أعراض شديدة. فعندما تتعرض القبائل للإنفلونزا للمرة الأولى، ترتفع بين أفرادها معدلات الوفيات. لكن لحسن الحظ، هذه المرة، خضع أفراد القبيلة الذين خالطوا القبيلة الأخرى للحجر الصحي لفترة وجيزة وتلقوا علاجا، وعادوا إلى قريتهم التي لم تسجل فيها أي حالات وفيات. واختفى من القرية وباء الإنفلونزا.

غير أن وجود مجتمعات خالية من فيروس الإنفلونزا يثير تساؤلات مهمة، على رأسها هل يمكن أن يتخلص العالم من هذا الفيروس؟ ولعل العالم يخطو الآن خطوات واعدة نحو تحقيق هذا الهدف.

وفي شهر يناير 2020، سُجلت في أستراليا، تزامنا مع نهاية فصل الصيف، 6,962 حالة إصابة مؤكدة بفيروس الإنفلونزا، ولم يكن حينها فيروس كورونا المستجد قد انتشر خارج الصين.

لكن بدلا من أن تزيد حالات الإصابة بالإنفلونزا مع حلول الشتاء، كما هو معتاد، سُجلت في أبريل، من العام نفسه 229 حالة إصابة فقط بالإنفلونزا، مقارنة بنحو 18,705 حالة في نفس الوقت من العام الماضي.

ففي هذا الوقت، كان فيروس كورونا المستجد قد أصاب أكثر من مليون شخص حول العالم، وانتشر في كل قارة باستثناء القارة القطبية الجنوبية. وفرضت دول عديدة الحجر الصحي، وواظب الناس على غسل أيديهم وارتداء الكمامات.

وبحلول أغسطس، بدا واضحا أن موسم الإنفلونزا هذا العام هو الأخف على الإطلاق في تاريخ أستراليا، إذا سُجل إجمالا أقل من عُشر حالات الإصابة التي سجلت في عام 2019، وأغلبها وقع قبل تفشي الوباء.

وذكر أيضا رئيس المعهد الوطني للأمراض المعدية بجنوب أفريقيا مؤخرا أن بلاده: "لم تشهد موسم إنفلونزا هذا العام". وفي نيوزيلندا، لم يرصد الأطباء حالة إصابة واحدة بالإنفلونزا أثناء عمليات الفحص السنوي للسكان، رغم أن 57 في المئة من العينات التي فحصوها العام الماضي كانت إيجابية.

وتزامنا مع انتهاء الشتاء في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية وبدايته في الشمالي، قد تبدو الأمور هذا الموسم مختلفة تماما عن المعهود.

وذكرت منظمة الصحة العالمية في سبتمبر أن انخفاض حالات الإصابة بالإنفلونزا أصبح ظاهرة عالمية، بدءا من أفريقيا الاستوائية وحتى منطقة الكاريبي. وسجلت منصة "فلومارت" التي خصصتها المنظمة لتعقب حالات الإصابة بالإنفلونزا، في السابع من سبتمبر، 12 حالة إصابة مؤكدة بالفيروس فقط في العالم بأسره.

وتقول ساره كوبي، عالمة أوبئة بجامعة شيكاغو: "إن ما نشهده الآن في أستراليا ونيوزيلندا وأمريكا الجنوبية وهونغ كونغ، هو انخفاض كبير في عدد الإصابات لا بالانفلونزا الموسمية وحدها بل أيضا بالفيروس المخلوي التنفسي".

لا شك أن هذا الانخفاض قد يعزى إلى خوف الناس من اللجوء للأطباء، أو قلة الفحوص في بعض المناطق للكشف عن فيروس الإنفلونزا في ظل توجيه الموارد لأهداف أخرى. لكن الكثير من الخبراء يرون أن التباعد الاجتماعي وزيادة الوعي بالنظافة الشخصية بعد انتشار الوباء أسهما في انخفاض حالات الإصابة بفيروس الإنفلونزا.

ويرى بيتر باليز، عالم الأحياء الدقيقة بكلية طب ماونت سيناي بنيويورك، أن ذلك قد يرجع إلى التغيرات التي طرأت على الطرق التي نخالط بها الآخرين، ويقول: "من المرجح أن يستمر هذا الانخفاض مستقبلا".

لكن كيف يؤثر هذا الانخفاض في أعداد الإصابات بالإنفلونزا على الفيروس؟ وهل من الممكن نظريا أن يختفى فيروس الإنفلونزا للأبد؟ وهل تأثرت فيروسات أخرى أيضا؟

يقال إن البشر لم يصابوا بالإنفلونزا إلا بعد تدجين الطيور منذ قبل 10 آلاف سنة، تزامنا مع التحول من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة وتربية الحيوانات.

وظلت الإنفلونزا لآلاف السنين محصورة في العالم القديم، إلى أن نشرها الغزاة الأوربيون في الأمريكتين، وحملوا معهم أيضا طائفة من الأمراض، مثل الجدري، والحصبة والطاعون الدبلي والملاريا والجذام والجدري المائي والتهاب الغدة النكافية والتيفوس والكوليرا والديفتريا والحمى الصفراء.

ولم نتمكن على الإطلاق من القضاء نهائيا على أي من مسببات الأمراض سوى في عام 1980، حين أعلنت منظمة الصحة العالمية عن خلو العالم من الجدري بفضل تطوير لقاح ضد المرض. ونجحت أيضا جهود القضاء على متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد والوخيم "سارس"، عن طريق تعقب المخالطين للمرضى. لكن مع الأسف، لن يجدي اللقاح ولا تعقب مخالطي المرضى في القضاء على الإنفلونزا.

ويقول باليز: "إن مشكلة فيروس الإنفلونزا أنه يتغير". فهذا الفيروس لا يتوقف عن التطور ولهذا تعجز أجهزتنا المناعية عن التعرف على الفيروس ومقاومته بعد فترة من الشفاء منه. وكما هو معروف، فقد تتكرر إصابتنا بالعدوى أكثر من مرة. ويشير أحد التقديرات إلى أن فيروس الإنفلونزا يصيب ما يصل إلى 10 في المئة من سكان العالم سنويا.

ومع الأسف، لن ينجح التباعد الاجتماعي بمفرده في القضاء على فيروس الإنفلونزا. ويقول باليز: "حتى لو التزم جميع سكان المملكة المتحدة والولايات المتحدة والصين بارتداء الكمامات، فإن سكان الدول الأخرى قد لا يرتدونها". ورغم انخفاض أعداد الإصابات بالإنفلونزا العام الحالي، فلا يزال هناك مجتمعات ينتشر بين أفرادها الفيروس كالمعتاد.

ولو نجحنا في استئصال الفيروس كليا من الدول المتقدمة، فقد تكفي حالة إصابة واحدة لإعادة نشره مرة أخرى، نظرا لعدم وجود مناعة طويلة الأمد ضد الفيروس. وتقول كوبي: "إن أنماط التوزيع السكاني تساعد الفيروسات على الانتشار من مجتمع لآخر لتضمن البقاء على قيد الحياة".

ولا تقي اللقاحات الحالية من الإنفلونزا سوى لنحو ستة أشهر، نظرا للوتيرة التي يتطور بها الفيروس. إذ يعتمد فيروس الإنفلونزا على "انحراف المستضد"، حين يتغير الفيروس بفعل تراكم الطفرات التدريجية في الجينات التي تؤثر على بروتيناته السطحية (مولدات الضد)، بحيث يعجز الجهاز المناعي عن التعرف عليه وتصنيفه كمصدر تهديد للجسم.

وتحدث هذه التغيرات عادة في فصل الشتاء، حتى تتمكن الفيروسات من الانتشار في الطرف المقابل من الكرة الأرضية بمجرد انتهاء الفصل. وترتفع معدلات الإصابات في المناطق القريبة من خط الاستواء في فترات منتظمة، لكن لا يحكمها تغير الفصول.

ويطور العلماء لقاحات جديدة سنويا للقضاء على الفيروسات التي من المتوقع أن تنتشر لاحقا، وتتحدد تركيبة اللقاح في شهر فبراير في نصف الكرة الشمالي، وفي سبتمبر في نصف الكرة الجنوبي.

لكن في الوقت الراهن، يسابق العلماء الزمن لتطوير لقاح إنفلونزا شامل لا يحتاجه المرء إلا لمرة واحدة ويحميه من جميع أنواع الإنفلونزا عاما بعد عام. وقد اقترب العلماء من تطوير هذا اللقاح مؤخرا بعد عقود من البحث، وربما لو وزع هذا اللقاح على سكان العالم لاختفت الإنفلونزا من الوجود.

وفي الثمانينيات من القرن الماضي، اكتشف باليز وفريقه أن جذع بروتين "هيماغلوتينين" (الراصة الدموية) على سطح الفيروس، خلافا لرأس البروتين، لا يختلف كثيرا من سلالة لأخرى، ولهذا فإن الأجسام المضادة التي تعرفت على جذع البروتين في سلالة واحدة قد تتعرف على السلالات الأخرى من الفيروس.

لكن الأجسام المضادة التي يطلقها الجهاز المناعي تميل إلى التركيز على رأس بروتين الراصة الدموية بدلا من جذعه للتعرف على الفيروس. ويكمن التحدى الآن أمام مطوري اللقاح الشامل في توجيه الجهاز المناعي للاتجاه الصحيح.

وقد أثبتت التجارب التي أجريت على الحيوانات حتى الآن أن اللقاح المصنوع من جذع بروتين الراصة الدموية على سطح فيروس إنفلونزا الخنازير، قد يقي من فيروس إنفلونزا الطيور.

وبدأت المراحل الأولى من تجارب لقاح H1ssF_3928، الذي يعد واحدا من اللقاحات الشاملة المحتملة العديدة ضد جميع سلالات الإنفلونزا، على البشر، حيث يراقب العلماء الأجسام المضادة التي ستنتجها أجسام المتطوعين بعد تطعيمهم.

لكن المشكلة أنه توجد اليوم عدة أنواع من فيروس الإنفلونزا، إذ تنتشر سنويا أربع سلالات رئيسية من الإنفلونزا، ينتمي اثنان منها إلى الإنفلونزا "أ"، التي توجد في الحيوانات، بينما ينتمي الآخران إلى الإنفلونزا "ب"، التي لا توجد سوى لدى البشر والفقمات. وأحيانا تتطور فيروسات الإنفلونزا "أ" لتصيب البشر وتسبب أوبئة، مثل وباء أنفلونزا 1918 ووباء 2009، وكان مصدرهما الخنازير.

ويقول باليز، إن لقاح الإنفلونزا الشامل سيقضى على الإنفلونزا "ب" وليس "أ". ويرى أننا حتى لو تمكننا من القضاء على جميع سلالات الإنفلونزا "أ" التي تنتقل حاليا بين البشر، فقد تتطور سلالات جديدة وتنتقل من المستودعات الحيوانية البرية والمستأنسة إلى البشر. ويرى أنه لا يمكن حماية البشر من فيروسات الإنفلونزا "أ" إلا بتطعيم جميع سكان العالم منها باستمرار، وهو أمر مستحيل.

ويقول باليز إن جهود استئصال مرض الجدري كللت بالنجاح لأن الفيروس كان يتطور ببطء، ولم يوجد في أجسام الحيوانات، ورغم ذلك استغرقت جهود القضاء عليه 200 عام.

لكن رغم أنه من غير المرجح أن يختفي فيروس الإنفلونزا قريبا، فإن الوباء الحالي قد يؤثر على الفيروس من جوانب أخرى.

أولا، قد يتطور فيروس الإنفلونزا بوتيرة أبطأ من المعتاد، ومن ثم قد لا تختلف السلالات التي ستظهر العام القادم عن تلك التي انتشرت العام الماضي، وستصبح معدلات الإصابات منخفضة نسبيا. وتقول كوبي: "إن صعوبة القضاء على فيروس الإنفلونزا تكمن في سرعة تطوره إلى أشكال جديدة لم نرها من قبل".

ويقول باليز مفسرا: "لو انخفض عدد الفيروسات سيقل بالضرورة معدل حدوث الطفرات". وبعبارة أخرى، إذا أصيب 10 آلاف شخص بالفيروس قد تتوقع حدوث 10 طفرات للفيروس، لكن إذا أصيب ألف فقط، سيحدث عُشر هذا العدد من الطفرات في الجينات.

ورغم أنه لا يمكن الجزم بأن التباعد الاجتماعي قد أدى إلى انخفاض عدد حالات الإصابة بفيروس الإنفلونزا، أو ربما عدد الحالات المسجلة فقط، فمن المتوقع في العام القادم، بعد رفع قواعد التباعد الاجتماعي، أن ترتفع حالات الإصابة بالإنفلونزا بشدة في المناطق التي لم يسجل فيها إلا القليل من الإصابات في الوقت الراهن.

وتعزو كوبي ذلك إلى أنه "في حالة عدم انتشار مسببات الأمراض التنفسية، لن يكتسب الناس مناعة ضدها". وتشير كوبي إلى أنه بدلا من التركيز على تطوير لقاح، قد يكون من الأفضل الإنفاق على إجراءات الوقاية والعلاج التي قد تسهم أيضا في القضاء على مسببات الأمراض التنفسية الأخرى بخلاف كورونا المستجد، مثل الاهتمام بالنظافة الشخصية وتوفير أجهزة التنفس الاصطناعي.

ويشدد باليز على أهمية التطعيم ضد الإنفلونزا ويقول: "هذا اللقاح يساعد في تخفيف حدة المرض، حتى لو لم يساعد في حمايتك من جميع سلالات فيروس الإنفلونزا، فضلا عن أنه آمن تماما".

وحتى الآن لا يعرف العلماء بعد ما الذي قد يحدث لو أصيب الناس بكورونا المستجد والإنفلونزا في آن واحد. ويقول باليز: "أكثر ما أخشاه أن يؤدي ذلك إلى تفاقم المرض".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: