إعلان

المركز الثقافي الروسي و٧٧ عاماً من العلاقات المصرية الروسية

د. أمــل الجمل

المركز الثقافي الروسي و٧٧ عاماً من العلاقات المصرية الروسية

د. أمل الجمل
07:00 م الإثنين 14 سبتمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"أجمل أيام حياتي قضيتها داخل المركز الثقافي الروسي".. إنها كلمات المبدع يوسف إدريس أو تشيكوف القصة القصيرة في مصر، كما يحلو للبعض أن يُطلق عليه.

والكلمات على قصرها تشي بأن هذا المركز الذي تم إنشاؤه عام ١٩٥٦، كان بمثابة محور للإشعاع الثقافي لكثير من المصريين، من خلال تقديم الثقافة الروسية، وفتح آفاق جديدة للشباب لدراسة الثقافة والفنون والحصول على المنح الدراسية؛ ما يعني أنه كان - ومَنْ يتابعه يُدرك أنه لا يزال - يلعب دورا كبيرا في تعميق العلاقات الثنائية بين البلدين التي بدأت منذ العام ١٩٤٣.

كانت المنح الدراسية التي وفرها المركز للعديد من الشباب والمؤسسات المصرية أحد أشكال التعاون الثقافي الذي أسهم في خلق الشغف المصري بالثقافة الروسية المتعددة وتاريخها العظيم، شغف بلغ حدود الثورة النفسية التي حاولت التمثل بالجانب الروسي آنذاك والاستفادة منه قدر الإمكان ومحاولة محاكاته في المجتمع المصري.

رسائل موسكو إلى سمير فريد

هذا الشغف والولع نراه مجسدا بوضوح في رسائل وصلت الناقد السينمائي الكبير سمير فريد من المخرجيْن المصرييْن سيد عيسى ومحمد كامل القليوبي، في أثناء دراستهما في روسيا؛ حيث كانا ينقلان إليه تلك الحالة الثقافية المشتعلة بالفن والقراءة والاستمتاع بالموسيقي، ويحكيان له عن كل شيء، عن الكتب والدوريات السينمائية، عن «المطابع التي تقذف بكميات رهيبة من الكتب الفنية، كل ثلاثة أيام تقريبا كتاب جديد»، وعن «أكاديمية العلوم السوفيتية التي خصصت عام ١٩٦٧ بأكمله لأبحاث الفن السينمائي، على أن تُطبع أيضا هذه الأبحاث مع المحاضرات وكل رسائل الدكتوراه في السينما حتى نهاية العام ١٩٦٨».

ثم في رسالة أخرى يُضيف سيد عيسى - وعلي ما يبدو من النص الضمني للرسالة أن سمير يسأله رأيه عن إنشاء نادٍ للسينما بالقاهرة مستفيداً من التجربة الروسية، فيرد عليه سيد عيسي بأنه سيُخبره بما هو موجود بالفعل في موسكو، ربما للتمثل وللمقارنة والتطوير بمصر قائلاً: (هنا نادٍ للهواة، في كل مصنع، وشركة، ومكان تجمع، تعرض الأفلام الجديدة، وربما بعد عرضها بقليل أو في نفس التوقيت، بأثمان تعادل السينما، أو أقل قليلاً، المهم هو ذهاب الفيلم لمن لا يريد الذهاب إلى السينما، وحتى يراه أكثر عدد من الناس، وبعضها يعرض في فترة الراحة اليومية «الغذاء» عشان ما يرجعوش مخصوص… شفت يا عم سمير.. وبعض هذه النوادي لهم نشاطات في تصوير أفلام الهواة.. وجمعيات الفيلم تعرض الأفلام ذات المستوي الرفيع من مختلف البلدان، وتُقيم الأسابيع الفنية للأفلام الإيطالية، الأمريكية، الفرنسية…. إلخ، أيزنشتين، دومنجو، وأورسون ويلز، شارلي شابلن وفيلليني).

يحيى عزمي والتكوين الثقافي

كذلك، أثناء تواجد المخرج محمد كامل القليوبي بموسكو، كانت رسائله إلى سمير فريد تتحدث عن الحالة الثقافية في الاتحاد السوفيتي سابقاً في السبعينيات، وتنقلها نقل العين بأسلوب حماسي فيقول: «حاجة يا أخي مستفزة، لو تتخيل إن في كل فرع من فروع المعرفة وفي أي تخصص وفي أي جزئية في أي تخصص كم مخيف من الكتب بيطلع.. والناس كلها تقرأ بجنون.. عندي مكتبة هنا كبيرة دلوقتي تنمو بشكل مخيف… طبعا الكتب رخيصة جدا، وفاخرة جدا أيضا.. الأسطوانات نفس الشيء، الكلاسيكات، موسيقى الجاز، وأسطوانات أرمسترونج، وأغاني الإفيتزجيرالد الزنجية الأمريكية، وأغاني إديث بياف، وشاول أزنافور، لغاية البوني، والأغاني الفلكلورية الروسية القديمة، ومختلف الجمهوريات وأغاني أمريكا اللاتينية.. الاستهلاك الثقافي هنا جنون مطبق، الكل يقرأ، ويقرأ في كل شيء في الدنيا. الكتب هنا شيء يدعو للجنون.. طبعا كمّ كتب السينما لوحدها مُذهل».

لم يكن القليوبي وسيد عيسى هما الوحيدين. هناك مئات المصريين الذين درسوا في الاتحاد السوفيتي، بينهم مثلاً عبد المنعم كامل وطارق التلمساني، والدكتور يحيى عزمي، أستاذ مادة السيناريو بالمعهد العالي للسينما، ورئيس تحرير سلسلة آفاق السينما، والذي تحدثت معه عن تجربة الدراسة فاستعادها بألق وبهجة قائلاً: عندما جاءتني المنحة كنت معيدا بالمعهد، سافرت وكان العام الأول مخصصاً لدراسة وإجادة اللغة، حصلت على كورسات تعادل الماجستير، ثم أنجزت الدكتوراه التي دارت عن الزمن السينمائي، وكان حظ المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي منها أكثر من المخرجين الآخرين بالرسالة، بحكم انشغاله بالزمن السينمائي وتنظيره له.

أما عن الأثر التكويني على مستوى الدراسة وكتابة السيناريو، فلا ينفيه د. عزمي، لكنه يؤكد على أن المعايشة للأوضاع الثقافية، والاطلاع على ثقافة جديدة كان لهما أبلغ الأثر، وأهمية كبيرة في تكوين فكره الإنساني والسينمائي، بسبب التنقل بين المسارح وعروض الباليه ومشاهدة الأفلام الروسية، وكذلك عروض الأفلام العالمية هناك، ومطالعات الكتب وزيارة المتاحف، والنقاشات المستمرة. لذلك كان للمعايشة الأهمية الأكبر من الدراسة، وبعد ست سنوات، ورغم توفر فرص عمل هناك قرر د. عزمي العودة إلى مصر لإحساسه أنه أصبح يمتلك خبرة كان يريد أن ينقلها لأبناء بلده، وأنه بذلك سيكون أكثر فائدة لمصر.

شريف جاد

إذن، ليس من فراغ تشكيل الجمعية المصرية لخريجي الجامعات الروسية والسوفيتية والتي يترأسها شريف جاد، مدير الشؤون الثقافية في المركز الثقافي الروسي والذي كان أول مدير عربي بالمركز بعد إعادة افتتاحه عام ١٩٨٨ حيث كان مغلقا بقرار الرئيس السادات طوال فترة توتر العلاقات بين مصر روسيا، واستمر شريف بهذا العمل حتى الآن، أي على مدار ٣٢ عاماً.

على مدار اثنين وثلاثين عاماً ظل شريف جاد متحمساً دوما لما يقوم به، ممسوساً بالثقافة الروسية، ويتمتع بإيمان قوي بدور المركز الثقافي الروسي في المساهمة في مد جسور التعاون بين الشعبين.

تعرفت عليه للمرة الأولى في لجان المشاهدة واختيار الأفلام بمهرجان القاهرة السينمائي، ورغم أنني تلقيت عدداً من كورسات اليوجا بالمركز، وحضرت ندوات عدة للأفلام، وفي مناسبات ثقافية أخرى، لكني تعرفت عليه بشكل أعمق عندما التقيت به مصادفة بأحد اللقاءات الثقافية وكنت بصحبة زوجي د. شريف حتاتة.

يومها جاء مسرعا ليُسلم عليه بود شديد وتقدير عميق كان واضحاً على ملامح وجهه، قائلا: «عمي جاد هو الذي اختار لي اسمي ليكون على اسمك يا دكتور شريف».

بينما كان زوجي يرحب به بسعادة، نظرت أنا إليه متسائلة عن هوية عمي جاد! فيُجيبني: «إنه جدي، ولكني اعتدت مناداته بعم جاد. في أثناء نضاله ضد الاحتلال الإنجليزي بإحدى المظاهرات أصيب برصاصة، وفى فترة السجن تعرف على الشيوعيين والتحق بحركة (حدتو) فتغيرت حياته تماماً، ليشارك بعد ذلك في تأسيس حزب التجمع، ويأتي تأثيره على حياتي بداية من اختياره اسمي.

إنه أكثر إنسان أثر في تكويني الإنساني والثقافي، حتى أكثر من والديَّ؛ فقد توفيت أمي بعد إتمام عامي الأول بقليل، إثر حريق بالبيت، بينما والدي كان ذا شخصية قوية وذا هيبة، لكنني كنت أخشاه، وأرهبه، وقد رحل وأنا لا أزال في سن مبكرة.

تولى رعايتي وتربيتي جدي، أو عم جاد، أحد أبرز أقطاب اليسار المصري، الذي لعب دوراً مهما في حياتي، وهو صاحب الفضل في سفري إلى الاتحاد السوفيتي عام ١٩٧٩، حيث درست في جامعة موسكو التي كانت تعد كأنها دولة بذاتها، فدرست، ولعبت كرة القدم، ومارست الفن وأحياناً السياسة وعدت إلى مصر عام ١٩٨٦.

لا يترك شريف جاد فرصة وإلا ويُعبر فيها عن سعادته بأنه جزء من هذا الكيانِ- المركزِ الثقافي الروسي ذي الجذور التاريخية الممتدّة على مدار ٧٧ عاماً من التبادل الحضاري بين البلدين، مشيراً إلى أن مصر تعد النقطة الثقافية الروسية الأهم في الشرق الأوسط.

لا شك أن المركز الثقافي الروسي يُسهم في مد جسور التعاون بين الشعبين، خاصة منذ تولى الحكم الرئيس السيسي الذي وجه الدعوة للجانب الروسي لزيادة حجم استثماراته في عدد من المجالات الحيوية التي تشهد تطورا ملموساً في ظل تطابق الرؤى المصرية والروسية حول القضايا الدولية والتفاهم بين القيادات في البلدين.

إعلان