إعلان

حامد ربيع الصارخ في البرية

د. أحمد عمر

حامد ربيع الصارخ في البرية

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأربعاء 06 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"مصر الحبيبة أعلم أنك تبكين في صمت وهدوء، وأنت تتحاملين على نفسك؛ لتقفي صامدة بكبرياء قوية، دون خنوع فأنت دائمًا القاهرة، ولن تكوني سوى القائدة. وأعلم أنك تتلفتين حول أرضك فلا تجدين سوى العداوة والحقد، وهي عداوة مردها الحقيقي الشعور بالضعة. ولكنك تعلمين أيضاً أن قصتك هي قصة البطولة، وأن تاريخك لن يكون سوى نموذج التضحية، تقدمينه دون ضجة أو ضوضاء.

وهذا لم يمنعك من أن تتوقفي من آن لآخر لتنظفي منزلك مما علق به من أوحال، وهذا هو سر قوتك وسر بقائك، رافضة الفناء مؤكدة العظمة والخلود. نعم علينا أن نستعيد حقيقة ما حدث، وما يحدث حولنا، وعلى الحاكم أن يخرج عن صمته ليؤدي واجبه إن أراد أن يخلي مسؤوليته أمام الله ثم الأجيال القادمة وأن يعلن أمام الضمير القومي بأنه واع بحقيقة واجبه".

هذه الكلمات الصادقة، وما تكشف عنه من هموم وطنية وحقائق تاريخية، كتبها الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والمفكر السياسي المصري البارز الراحل الدكتور حامد ربيع، في مقال له بعنوان: "الأمن المطلوب في سياسة جمع المعلومات" نُشر في 14/3/ 1983، بالعدد رقم (739) لمجلة الأهرام الاقتصادي.

وتُذكرنا هذا الكلمات والتحذيرات بكلمات الحكيم المصري القديم "إيبور" الذي عاش في فترة الانهيار السياسي والاجتماعي والأخلاقي التي أعقبت سقوط الدولة القديمة، وقد صور لنا في نص موجود ببردية محفوظة الآن بمتحف ليدن بهولندا، تٌعرف بعنوان: "تحذيرات الحكيم إيبور" مظاهر التردي والانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عصره، كما وضع بعض الوصايا التي تُمهد للإصلاح، وعلى رأسها وجود حاكم عادل ذي بأس، تكون وظيفته أن "يطفئ لهيب الحريق الاجتماعي، ويُقال عنه إنه راعٍ لكل الناس".

ولكن كلمات وتحذيرات الدكتور حامد ربيع قد ذهبت مع الريح، دون أن تجد آذانًا صاغية من أهل الحكم والسياسة في زمن الرئيس الأسبق مبارك. وصار هو مثل الصارخ في البرية "يوحنا المعمدان، ومثله دفع حياته ثمناً لأفكاره وتحذيراته، بعد أن رحل عن دنيانا في ظروف غامضة عام 1989.

والمؤلم أنه هو ذاته أصبح اليوم مجهولاً لدي الكثير من المصريين، رغم أنه كان يستحق أن يكون أحد الآباء المؤسسين العظام في تاريخ هذا الوطن، وباعثًا للروح المصرية، وأن يحتل بأفكاره ووطنيته في وجدان المصريين ووعي مؤسسات الدولة مكانة كبيرة؛ وهذا ما يُحتم علينا اليوم التذكير به، وإحياء أفكاره وتراثه، واستعادة وجوده، ومحاولة التعريف به.

ولد الدكتور حامد ربيع في منتصف عشرينيات القرن الماضي، وهو صاحب تجربة إنسانية وعلمية ومهنية شديدة الثراء والخصوصية؛ فقد درس في أعرق الجامعات الغربية، وحصل فيها على خمس درجات دكتوراه توزّعت بين علوم الاجتماع التاريخي والقانون وفلسفة القانون والعلوم السياسية. وله أكثر من 45 كتابًا و350 دراسة علمية منشورة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية واللاتينية، إضافةً إلى آلاف المقالات في الصحف والدوريات العلمية العربية والأجنبية.

وقد عمل حامد ربيع في بداية حياته المهنية بالنيابة العامة، ومدرسًا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومساعِدًا للمستشار الشخصي العلمي للرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.

كما أسس "مركز الدراسات الإنمائية" في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وأشرف على إنشاء "المعهد الدبلوماسي" التابع لوزارة الخارجية المصرية. لينتقل بعد ذلك للعمل لثماني سنوات في معهد البحوث والدراسات العربية في بغداد، وهناك عمل أيضاً مستشاراً سياسياً شخصياً للرئيس صدام حسين.

وقد توفي فجأة عام 1989، وإن ترددت الكثير من التكهنات والأصداء حول تلك الوفاة، وأنها في حقيقتها كانت اغتيالاً، ولم تكن وفاة طبيعية.

وقد تعددت التكهنات حول من يقف خلف هذا الاغتيال؛ ففي حين وجه البعض أصابع الاتهام للموساد الإسرائيلي، لرغبته في التخلص من حامد ربيع بسبب المقالات الكاشفة المثيرة للقلق التي كان يُوالي نشرها في جريدة الوفد عن الاستراتيجية الإسرائيلية.

وجه البعض الآخر أصابع الاتهام إلى نظام الرئيس العراقي صدام حسين، الذي اغتال حامد ربيع خشية أن يكشف شيئاً مما لديه من معلومات اطّلع عليها إبّان عمله مستشاراً سياسياً للرئيس العراقي صدام حسين، وخاصة أنه اصطدم به في مواجهة عاصفة حول النتائج الكارثية لحربه مع إيران، واضطر بعدها للهروب مُتخفياً من العراق عام 1987.

في النهاية، رحم الله الدكتور حامد ربيع، الذين لا نزال في مصر في أشد الحاجة لإحياء واستلهام النموذج الذي يُمثله والرمز الذي يُقدمه، وإلى استخلاص النتائج العلمية الموثوقة من المعطيات النظرية التي قدمها، وخاصة أن أفكاره ورؤاه وتحذيراته لا تزال تترد في الفضاء العام، وتبحث عن آذان صاغية، لكي تستطيع مصر مواجهة التهديدات والمخاطر التي تستهدفها، ولكي تستطيع استعادة دورها ومكانتها وريادتها.

إعلان