إعلان

أطفال متوحدون.. قصص قصيرة

عمار علي حسن

أطفال متوحدون.. قصص قصيرة

د. عمار علي حسن
07:00 م الأربعاء 27 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

1 ـ مقلتان من حجر

ذاهبتان إلى البعيد لا تستقران على شيء، ولا على أحد. تحملقان في فراغ ليس له حدود، وترتدان كسيرتين مليئتين بالغربة والضياع. ليس بهما وجع ولا فرح، إنما حزن دفين يفيض ألمًا، وربما شوق إلى عالم لن يولد.

لم يظهر فيهما لمعان النشوة حين مددت إليه لعبة تصفق وتتمايل، وتصنع أهازيج صاخبة، ولا حين وضعت إصبعي السبابة في أذني وفردت يدي وأخرجت لساني وهززت رأسي بعنف وأنا أقهقه وأتمايل راقصًا. ولم تظهر فيهما رعشة الخوف حين هممت لأعاتبه بقسوة لأنه ألقى كوبًا زجاجيًا على بلاط الحجرة فتهشم واستقرت إحدى شظاياه في بطن قدمي اليمنى فسال دمي غزيرًا ولطخ المكان. ثابتتان فقط على فقاعات الصابون، التي تولد منتفخة وتموت صامتة، في طبق الغسيل الذي وضعته أمه في جانب الحمام، وعلى حبات الخرز الملون التي رصها في خط مستقيم يلامس الأريكة في صالة البيت الضيقة.

حين خرجنا بعد العصر إلى الحديقة رأيت فيهما احمرار الشمس وهي تنسحب في هدوء تاركة وراءها ليلًا مقبضًا يزحف من دون هوادة، حيث الأحلام المزعجة التي يملؤها وجه الطبيب المسترخي خلف مكتبه وهو يقول بعينين واثقتين ولغة جافة:

إنه متوحد.

فيطلق كلامه في عيني شلالات الدمع الحبيس، وتغور بي الدنيا إلى قيعان الألم، فأخرج من عنده والحسرة تأكل روحي.

أجلسه على الأريكة، وأجثو أمامه على ركبتيَّ. أضع وجهه بين راحتي، وأثبت عيني في عينيه، ثم أكلمه عن اليمامة التي مص الثعبان دمها، والتفاحة الحمراء التي سقطت على الأرض اللينة فتعفنت، والمقهى الذي أرتاده في المساء لأذيب ألمي بين شهقات الدخان الأسود، ومدرس التخاطب الذي يأتي في المساء مشحونًا بالحروف الأبجدية وكلمات عن أسماء الأشياء التي نلمسها ونحسها كل يوم، متلهفًا على نقودي القليلة. لكن عينيه لا تنطقان بشيء. يرميهما ويسحبهما سريعًا إلى الفراغ.

الليلة غلبه النوم عند أبواب الفجر، فأسدل جفنيه على قطعتي الحجر، وفتحت أنا أبواب الشقة ليتدفق الصباح الآتي على عجل. كانت العتمة الرائقة لا تزال جاثمة في أركان الحجرات والردهات المؤدية إليها. حملقت هناك في الركن القصي فرأيت عينيه مثبتتين بالجدار، تحملقان في قطع العتمة الهاربة أمام زحف النور.

ركضت إلى غرفة نومه. اقتربت في هدوء من سريره. كانت شفتاه منفرجتين في ابتسامة مشرقة لم أرها من قبل، ويداه تلوحان وكأنه يحيي حبيبًا قادمًا إليه في حبور، أو يودع عصفورًا غرد وطار نحو السماء البعيدة. اقتربت أكثر وجلست على حافة السرير. مددت أصابعي في حذر حتى حطت على جفنيه. رفعتهما وصوت غطيطه يضج في أذني، فبهرني ضوء يسطع من مقلتيه. لمعان مملوء بالفرح، سينطفئ حين يستيقظ عند الظهيرة.

2 ـ متفرجون

حين بدأ يصفق ويطوح رأسه إلى الأمام والخلف ويصيح بصوت لف المكان التفت إليه الجميع مندهشين. ضحكت بنت كانت تمسك يد زميلتها، وصوبت امرأة إصبعها ناحيته ليراه زوجها السمين، وقال طفل إنه يشبه اللعبة التي اشتراها له أبوه، فهي تصفق وتتراقص.

هو لا يبالي بهؤلاء الذين تركوا خيام معرض البضائع، المقام على لسان صناعي يشق مياه الخليج يسمونه في أبوظبي "كاسر الأمواج"، وراحوا يتفرجون عليه. ولم يبال الناس بأمه العجوز السمراء، التي تجلس جانبه هادئة البال، وكأن الأمر لا يعنيها. وهل من الزحام شاب أسمر فارع الطول، يمسك طفلة صغيرة، ذات شعر مجعد وعينين وسيعتين. تقدم نحوهما وهما جالسان على يمين خيمة صغيرة لفتاتين مغربيتين تقرآن الكف عن طريق الكمبيوتر للمتلهفين على بعض أمل والراغبين في التخلص من أوجاع كآبتهم القاتمة، والزوجات اللاتي يردن أن يتأكدن أن أزواجهن لا يفكرون في غيرهن.

تقدم، والناس توقعوا أنه بمجرد أن يلمسه سيتوقف عن التصفيق وتطويح رأسه ويصفعه بيده القوية، أو يشب عن كرسيه البلاستيكي الذي يهتز بعنف تحت جسده الذي لا يتوقف عن الرج العنيف، ويطبق بأصابعه العشرة على عنقه ولا يتركه حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة. لكنه كان يسير باطمئنان وابنته الصغيرة تلعق مثلجات الفواكه اللذيذة وتشاكس برأسها فقاعات الصابون التي كانت تطير من فوهة لعبة إحدى البائعات الصينيات، وتثير أهازيج الأطفال في الساحة الضيقة التي تفصل خيام البضائع.

ونادى رجل من الزحام وقال:

ـ تعالى هنا يا "زول".

لكن الرجل والبنت تقدما حتى وصلا إلى الطاولة التي يجلس هو وأمه بجانبها، ثم سحب كرسيين، أجلس الصغيرة على أحدهما، وجلس هو على الآخر. مد يده ليسلم عليه، لكنه لم يلتفت. أمسك كفه فترك له يده من دون أن يتوقف عن الهز السريع والتصفيق والصياح والحملقة هناك؛ حيث لمبة معلقة في طرف إحدى الخيام. وأخذ الرجل يحدث المرأة العجوز، والناس شنفوا آذانهم لكن أحدًا منهم لم يسمع شيئًا.

فجأة انتفض واقفًا دون أن يتوقف عن التصفيق وراح يمشي تجاه الناس المحتشدين حوله وفمه مفتوح في ضحكة لا يظن أحد أنها ستنتهي. لما رأوه قادما يصفق ويطوح رأسه في الهواء، راحوا يتقهقرون بسرعة، وكاد بعضهم يدوس بعضًا. وانتفضت المرأة العجوز من مكانها وأخذت تجري وراءه، وهي تقول للجموع في انكسار:

لا تخافوا.. إنه لا يؤذي.. إنه ليس عبيطًا.

وسأل رجل وهو يطلق ساقيه ليندس في إحدى الخيام:

ما هو إذن؟

وكان الرجل فارع الطول قد لحق بالمرأة وتمكنا سويًا من الإمساك بيديه اللتين انطلقتا تصفقان في عنف، فأجاب وهو يولي وجهه شطر خيمة المغربيات:

إنه متوحد.

3 ـ لوحـة

كان منكبًا على وجهه، يكاد يرقد على لوحة بيضاء، أحضرتها أخته لتستعين بها في الصحافة المدرسية، وقلم اللون البني مثبت بين إصبعيه كأنه قطعة من جسده. كنت خارجة من المطبخ أحمل كوب شاي وقراقيش الكمون التي يحبها. مددت واحدة إليه لكنه أزاحها بيده، التي كانت تقبض على طرف اللوحة لتثبتها بالأرض.

استمر في مد الخطوط في عرض اللوحة وطولها ليرسم "شارع الوحدة". وبدا أمامي الشارع نفسه ينام تحت إبطيه، كأن آلة تصوير عبقرية قد التقطه بأكمله. البنايات المتراصة، ومحلات البقالة، ومعارض السلع والملابس، والمقاهي، والمطاعم وصالونات الحلاقة، حتى وصل إلى الجسر الذي يفتح الطريق من "الشارقة" إلى "دبي".

في الطرف الأسفل للجسر أخذ يرسم ملامح وجهين متقابلين. إنهما تلك المرأة وذلك الرجل اللذان كانا يقفان عند الظهر يتجاذبان أطراف حديث لم يسمعه ابني، وإن سمعه فلن يعيره أي اهتمام، مثلما لا يهتم بكلامي معه، ولم يتفوه بكلمة واحدة رغم أنه بلغ الخامسة من عمره، ولا يلتفت إليّ أبدا حين أناديه في البيت وهو شارد يحملق في نقطة بعيدة لا أعرفها أبدًا. يضحك أحيانًا من دون أن يكون هناك ما يضحك، ثم ينفجر في بكاء حار فجأة من دون أن يكون هناك ما يدعوه للحزن، ولا يعير اهتماما لهؤلاء العابرين الذين يملأون الدنيا لغطًا ومشاكسة وحبورًا ليصنعوا الحياة.

أشعر أحيانًا أنه يعرف التفاصيل الدقيقة للأشياء والوجوه لكنه لا يتفاعل معها، واليوم بت متأكدة من أن أحاسيسي سليمة. فها هو يحط على اللوحة الكبيرة أنفين وفمين وأربع عيون متقابلة لم نرها سوى لحظات قليلة حين توقفت السيارة في إشارة المرور، أثناء عودتنا إلى البيت بعد الزيارة الدورية للطبيب النفسي.

وتذكرت أن المرأة كانت ترفع يدها اليسرى، وتشير بإصبعها إلى مكان لم نعرفه. انتظرت قليلًا، والشاي صار باردًا في يدي بينما سقطت القراقيش على الأرض من دون أن أدري، وكدت أن أسقط أنا من هول ما رأيت، فقد كان قد مد سن القلم ليرسم اليد اليسرى التي تشير إلى البعيد، واليد اليمنى التي تجذب طرف الغطاء على رأسها لتقيها شمس الظهيرة الحامية.

4 ـ رفرفة

قالت له وضحكتها تجلجل، وتلف جدران الشقة، وتحط على الشجرة فارعة الطول أمام البناية، فتوقظ العصافير:

يرفرف في بطني.

فبادلها الضحكات قائلًا:

طفل هذا أم هدهد؟

ولد طفلًا، لكنه حين بلغ الثالثة صار طفلًا وهدهدًا معًا. ملامحه جميلة، أحلى من كل الأطفال الذين يلعبون تحت البناية، وهو يقف شاردًا، يراقبهم من بعيد بعينين كسيرتين، ويداه ترفرفان في الهواء، وفمه يطلق صوتًا شبيها بصوت الهدهد.

أناديه بصوت مبحوح:

تعال.

لكنه لا يلتفت إليَّ، بل يستمر في دورانه، وتتسع الدائرة لتتعدى المساحة الصغيرة المحيطة بالبناية، وتمتد إلى نهر الشارع. أجرى لأنتشله من تحت عجلات السيارات المارقة، التي لا يخاف منها أبدًا، لكنه يقاومني. أجذبه برفق، لكنه يشد يدي وينام في الأرض، رافضا النهوض. أتركه برهة حتى يهدأ ثم يمشي معي، إلا أنه يهز جسده بعنف، ويمد ذراعيه في الهواء، ويرفع كفيه بشكل أفقي، صعودًا وهبوطًا، ولا تلبث هذه الحركة الميكانيكية أن تصير رفرفة كاملة.

وتيقنت من هذا تمامًا حين رأيته ذات عصر يطارد يمامة حطت على الرصيف. ركض وراءها فجرت أمامه، ثم فردت جناحيها وطارت، وراح يجري وراءها ويرفرف، ويطلق صوت الهدهد. هذا الصوت الذي طالما سبب لنا وأمه أذى، حين يلفت انتباه المتزاحمين في معارض الملابس، والأسواق، والملاهي. يتملكهم عجب، وهم يرمقونه بعيون محايدة، وهو يجري يمينًا ويسارًا.

ويبدو أن اليمامة كانت قد اشتاقت لصوت الهداهد فاقتربت منه، ورفرفت على كفيه، فأمسك بها. ولم تلبث أن نامت على صدره، فأخذها إلى البيت، فصارت لدينا يمامة وهدهد. ورميت لها حبات القمح فالتقطتها مطمئنة، ولم تطر رغم أن نافذة الشقة ظلت مفتوحة طيلة النهار. كانت تحط أمامه على كرسي طاولة الطعام، فيقف أمامها، ويميل برأسه ناحيتها ويتأملها. العينان في العينين، وهمساته في أذنها. ترفرف ويضحك وتسود بينهما لحظة صمت، ثم ينخرطان في حوار لا أسمعه. تمتم لها بأصوات، لا تشكل حتى ربع كلمات، فراحت تهدل، وتعالت ضحكاته.

وقالت أمه وهي ترقب الموقف من بعيد:

يفهم لغة الطير.

فقال أبوه في أسى:

ولا يفهم حتى كلماتنا البسيطة.

وذات عصر طارت اليمامة باتجاه عين الشمس. كانت النافذة مفتوحة، وكانت عيناه مفتوحتين تتابعان رفرفتها، حتى ابتلعها الشعاع الأصفر الأخاذ. وتوقعت أن يبكي لرحيل اليمامة، لكنه لم يفعل. وضع وجهه في فراغ النافذة، رافضًا أن يبرحه. لم يتحرك حتى حين أظهرت له أمه طبق البطاطس المحمرة التي يحبها جدًا، ويترك الدنيا بأسرها، ليخلو إليها يلتهمها ويرسل نظرات صامته تقول:

أريد المزيد.

وحاولنا عبثًا أن نخلعه من النافذة، ونأخذه إلى سريره بعد أن تأخرنا سهرًا أمام التلفزيون. ولمَّا أعيتنا الحيل في إقناعه نهرناه بقسوة، لكنه بكي بحرقة لانت لها قلوبنا المملوءة بالشفقة عليه، والمعذبة بتساؤلات كثيرة نطرحها حول مصيره حين نخلد إلى النوم، وفي أوقات فسحة نهاية الأسبوع، وحول مائدة الطعام، وبعد الصلاة وقبلها، وبعد دواء الضغط، الذي تتناوله والدته وقبله، وفي بعض ساعات العمل.

ونام كل منا داخله. جسدان مترنحان في نصف جلسة على المقاعد الكبيرة الطرية، وعيون مغمضة، وعقول سابحة في أحلام تغطيها أجنحة ترفرف، وتملؤها شمس ظهيرة الأمس، التي كانت قد اقتحمت ردهة الشقة بقوة، وراحت تلسعنا من دون هوادة، ونحن نتابع ابتعاد اليمامة سريعًا إلى جوف السماء.

قبل الشروق بدقائق، استيقظنا على صوت هادر، ففتحنا عيوننا فإذا بمئات اليمام تحلق في اتجاه الشقة، ترفرف من دون أن تبعد أعينها عن يمامة تشير بمنقارها إلى صديقها الهدهد الجالس منذ الأمس ينتظر اليمامات الفرحات.

إعلان