إعلان

موجبات الدهشة ..

د. هشام عطية عبد المقصود

موجبات الدهشة ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 26 يوليه 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الدهشة هي بعض ما يتخلل سير المألوفات والعادي من الأشياء، فيباغت تواترها ويصنع حضورا محببا تعرفه النفس ببهجة استقباله، لحظة أو زمنا مستقطعا تختلف عما هو يسير معنا ويتكرر ويأخذ نمطا يمكن توقعه وترقبه وانتظاره، وكل دهشة جديدة تضخ في الإنسان أثرها بطاقة وأمل وربما الكثير من التصالح مع الحياة والتقبل وهكذا تنشأ فيوضات الرضا فتستقر في النفس هدوءًا وبهجة.

والدهشة حالة إنسانية لا يمكن اصطناعها أو عمل كتالوج لها بالمواصفات لتدخل ضمن خدمات وسلع وبضائع تجهزها الشركات والمصانع، ولهذا تظل نادرة وعصية على التصنيف الطبقي، وتظل ممكنة أيضا ما دامت تمضي الحياة وتتوالد صباحاتها والمساءات، وتبقى ندرة الدهشة ومباغتاتها ما يمنحها قيمتها وعلو مقامها في مواقيت أزمنة البشر وذاكرتهم.

1- دهشة المخلوقات الأوائل ..

لا بد أن الكم الأكبر من الدهشات حضر مع الوجود الأول للبشر في الحياة، فكل ما يلقونه سيكون جديدا، وسيكون إحساسهم وإدراكهم لكل ما يحيط بهم من كائنات وموجودات تظلله عناصر من الترقب والأمل والخوف أيضا ويتخلل كل ذلك الدهشة.

وكثيرا ما يباغتني السؤال عن كيف استقبل الإنسان الأول وجوده على الأرض، وكيف نظر وأدرك، وعرف وقارن فوعى، وكيف تعامل مع ما حملته الأرض من أشيائها ماذا فعل كل هذا الوجود الأرضي بآدم وحواء، وأجيالهما الأولى، كيف مثلا استقبلوا ضوء الشمس، وكيف أدركوا أول بزوغ للقمر ثم أين مضت خطواتهم الأولى؟.

وكيف كان الطعام الأرضي الأول؟ ثم والأكثر دهشة ما شكل أول تواصل بين البشر الأوائل؟ نوع الكلمات أو الإشارات أو الإيماءات التي مثلت أول منظومة تفاهم أرست فهما مشتركا، وصنعت بوادر حوارات البشر التي لم تنقطع من يومها قط، حديثا وجدلا وتفلسفا ونظرا وتدافعا، ليتشكل بعد ذلك كل ما قد صرنا نعرفه وتستقر معانيه لدينا، ومن تحدث أولا للآخر الرجل أم المرأة؟، ثم كيف تشكلت مدركات الجمال والقبح في الكون؟، وكيف استقبل الكون صوت التنفس الأول للبشر وهم يخطون على صفحة أراضيه وبحاره؟

2- دهشة الميلاد ..

لو كانت لدي البشر طريقة ما لمعرفة انطباعات المولود الجديد حين يخرج إلى فضاء الكون، معرفة أول ما يشعر ويحس ويري وكيف يدرك كل ذلك، وهل تتولد حينئذ وفي اللحظة ذاتها المشاعر التي تبقي وتنمو مع الإنسان من خوف وترقب وتوقع وأمل؟ وهل تبدأ جميعها معا في الاستيقاظ أو الظهور مع لحظة تفتح عيون الطفل الأولى وإدراك حواسه للعالم الذي خرج إليه؟، لا شيء كثير تمنحنا إياه المعارف في هذا الصدد، لكن ما يبدو بعد ذلك من ضحك أو بكاء أو حنين لحضن الأم يعبر عن كيف تتشكل فورا ذاكرة الحياة.

3- مفاجأة الاعتياد بالنظر ..

دهشة انتظار الشروق الأول وحضور مشهد هدأة الكون سكونا وترقبا وتنفسا هادئا، قد حالت بينك وبينه ضرورات الحياة، من عمل وانشغال ونسيان، واستيقاظ مسرع وعقل مشغول بما يلزم وما ليس له لزوم لكنها طباع البشر، سيحول ذلك بينك وبين تلك الدهشة التي نسيتها وغابت كثيرا، وحتي يفاجئك يوما تستيقظ فيه وتذهب نحو الشرفة فترقب انفصال "الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" سيكون مشهد بدء الصباح هذا مباغتا ومدهشا كأنه ولادة جديدة للروح وهدأة في الحياة بين محطات تسارع وتدافع، ستكسر اعتياد التسرع بالتأمل وبجملة "سبحان الله" في طمأنينة محببة، ستدرك أن كثيرا من العادي والمألوف يمكن استعادة دهشته بمزيد من التأمل والتبصر والنظر.

4- لقاء الأحبة ..

سيكون كل لقاء مع من تحب، من الأهل والأصدقاء، جديدا ومدهشا وجالبا للفرح، ليس هناك ثمة تفسير ما متاح وجاهز لذلك سوي كونه بعضا مما فطر عليه البشر، كونهم يطمئنون في حضور المحبين، دهشة طازجة تتخلل النفس بأنك وسط من تعرف وتحب، وسط من تأمن وترتكن إليه واثقا هادئا، حيث تتسع مساحة البوح مطمئنا بلا تحفظات وحسابات، وهل هناك ما يجلب دهشة أكبر؟!.

5- مشهد البحر ..

يمنح مشهد البحر بعد غياب دهشة جديدة، ليست أبدا تكرارا لدهشة الرؤية السابقة عليها تماما، وإنما دهشة تحتفظ بطزاجة أوانها ارتباطا بحالها وأوانها وما حملته معك لحظتها من عمر وأفكار وخبرات وتجارب.

سيزيد تلك الدهشة بهجة أن تستمتع إلى أغنياتك المفضلة وموسيقاك التي عرفتها ونسيتها أو تاهت في ازدحام الكون، وحيث ستدرك قيمة ذلك ودون أن تمضي وقتا كبيرا في التفلسف فيها، فقط ستحمد حضورها وستحتفظ بها وتمضي.

إعلان