إعلان

عن الانتحار كظاهرة اجتماعية

طارق أبوالعينين

عن الانتحار كظاهرة اجتماعية

طارق أبو العينين
09:00 م الأحد 08 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كثُر الحديث خلال الأيام القليلة الماضية عن حالات الانتحار التي وقعت في القاهرة، وعدة محافظات مصرية عبر وسائل مختلفة ومتعددة، منها القفز من أماكن مرتفعة كما حدث في حالة طالب الهندسة الذى ألقى بنفسه من أعلى برج القاهرة، وحالة سيدة الإسكندرية، وحالة طالب إمبابة، أو ابتلاع حبوب سامة مثل حالة فتاة كفر الزيات وحالة شاب الدقهلية. ورغم تعدد الوسائل واتساع النطاق الجغرافي فإن دراسة ظاهرة الانتحار في مصر يجب أن تنحوا باتجاه ربط المرض النفسي الذى دفع كل تلك الحالات إلى الإقدام على الانتحار بسياقه المجتمعي الذى أفرزه؛ لأن تجاهل ذلك السياق سوف يعني بكل تأكيد إخلالاً بالمنطق العلمي في التعاطي مع تلك الظاهرة الكارثية ....

فعلم الاجتماع الحديث قد بلور منذ أواخر القرن التاسع عشر ما يمكن تسميته بـ"سوسيولوجيا الانتحار"، عندما بدأ علماء الاجتماع للمرة الأولى في تحرير فعل الانتحار من دائرته التقليدية بوصفة نتاجًا لعلة عقلية مرضية لدى المنتحر عبر ربطه بالسياق المجتمعي الأعم والأشمل الذي دفع المنتحر إلى هذا السلوك. وهو ما فعله عالم الاجتماع الفرنسي الشهير "إميل دوركايم" عندما أصدر دراسته المهمة ((الانتحار ))، التي شكلت نقلة نوعية في العلوم الاجتماعية؛ لأنها ربطت حالة الخلل النفسي المؤدية إلى تنامى ظاهرة الانتحار في أوروبا خلال القرن التاسع عشر بالعوامل السوسيولوجية المتعلقة بالبيئة الاجتماعية المحيطة وطبيعة تفاعلات الأفراد داخلها، فحول دوركايم بذلك المرض النفسي من علة عقلية شخصية إلى انعكاس لحالة مجتمعية، يُشكل فيها فشل الإنسان في التعاطي مع ظروفه المجتمعية القاسية أو التكيف مع بيئته الاجتماعية دافعًا أكيدًا للانتحار، وهو ما حدث في فرنسا في أعقاب فشل الثورة الفرنسية الذى شكل سياقًا تاريخيًا ومجتمعيًا؛ لدراسة "دوركايم" فحالات الانتحار نتيجة تردى الأوضاع الاقتصادية والبؤس الحاد الذي عانته طبقة الفقراء قد تنامت واستفحلت في فرنسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر إبان حكم الإمبراطورية. ومن هذا المنطلق شرع "دوركايم" في تفكيك مفهوم الانتحار إلى عدة مفاهيم فرعية تتعدد بتعدد السياقات والظروف المجتمعية اللتين تدفعان الأفراد إلى الانتحار، فهناك أولاً مفهوم الانتحار الأناني الذى يحدث نتيجة تحلل وتفكك الروابط الاجتماعية سواء الدينية أو العائلية أو السياسية، التي تدفع مرضى الاكتئاب إلى الانعزال نفسيًا عن المجتمع وصولاً إلى الانتحار كحالات طالب الهندسة وطالب إمبابة وسيدة الإسكندرية، وهناك ثانيًا مفهوم الانتحار الغيري (الإيثاري)، الذي يحدث نتيجة رغبة الفرد في التضحية من أجل الجماعة التي ينتمي لها، وهناك ثالثًا مفهوم الانتحار الفوضوي (اللا معيارى) الناجم عن الأزمات والاضطرابات التي تحدث للنظام الاجتماعي نفسه بفعل تفشي حالة الفقر والعوز، وهذا المفهوم الأخير يعد قاسمًا رئيسيًا مشتركًا لغالبية الحالات التي حدثت في مصر خلال الفترة الأخيرة ...

وبرغم أن "دوركايم" قد قدم في دراسته حلاً لمواجهة تلك الظاهرة يتمثل في (الجماعية الوظيفية)، وهي تلك الحالة التي تجسدها النقابات المهنية العمالية والوظيفية على اعتبار أن التماثل -في الأصل والثقافة والاهتمامات- يجعل من النشاط المهني -حسب وصف "إميل دوركايم"- المادة الأكثر ثراءً لحياة مشتركة، ومن ثم فتلك الجماعية الوظيفية تتجاوز من وجهة نظرة دورها كمجرد إطار تنظيمي إلى وسط أخلاقي قادر على تقديم عناصر التلاحم والترابط لأفراد المجتمع، إلا أن إشكالية الرهان على التنظيم النقابي سلاحًا وحيدًا لمواجهة ظاهرة الانتحار تكمن -في اعتقادي- في تجاهله تقديم حلول لمواجهة تلك الظاهرة في أوساط الطلبة والعاطلين عن العمل وربات البيوت وكبار السن من غير العاملين، وهي الفئات الأكثر هشاشة وضعف في المجتمع، ومن ثم فهي الأكثر وقوعًا تحت وطأة الإحساس بالظلم والعوز والتهميش الاجتماعي، وهي كلها دوافع لمعظم حالات الانتحار في مصر...

وهو ما يعني في النهاية أن كل مجتمع يجب أن يُفرز -عبر علمائه- مقاربته الخاصة في مواجهة تلك الظاهرة الكارثية، آخذًا في الاعتبار طبيعة ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة محددًا رئيسيًا لتدشين طريقة مواجهته لها، عبر رصد أسباب الظاهرة مجتمعيًا، ثم غربلة وتنقيح مناهج علم الاجتماع وصولاً إلى الحل العلمي الأنسب والأكثر ملاءمة للواقع ....

إعلان