إعلان

أبيض وأسود ..

د.هشام عطية عبدالمقصود

أبيض وأسود ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 25 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

صار اللونان المتباينان عبر الوقت دليلا جماليا لمحبي الكلاسيكيات ومن تستبد بهم نوستالجيات الزمان القديم، تماما كما يفعل المشاهير وهم يسعون لاقتناء الأشياء القديمة، والتي كانت وقتها لفرط عاديتها أو إتاحتها أو حتي عدم الالتفات لقيمتها الفنية ولدور وقيمة مبدعيها عادية تماما، الأبيض والأسود مساحتان متباعدتان كقطبين في الحياة، يمثلان من وجهة نظر علمي النفس والاجتماع حدين بينهما يعيش الناس مساحات من اختلاط اللونين سلوكًا ومشاعر وذلك وفق المواقف والحكايات والتاريخ.

1/ طباع بشرية

تمنح قراءة المذكرات والسير حيزًا مهما في الحياة، إذ تمنحنا فرصة لاستخلاصات عن سير الحياة والبشر في دروبها ومسالكها وحيث "مشيناها خطى كتبت علينا"، تتيح تلك التجارب الفردية في النظر للحياة وعبر استكشاف بين السطور من وقائع وتواريخ وأحداث معرفة مختلفة تثبت أو تنفي كليا أو جزئيا ما كنا نظنه وما تغرسه فينا نوستالجيا الزمان الجميل البعيد، وربما ينقصها في تأريخها المختلف لدورة حياة الكون – تلك السير- في أن من يكتبها فقط هم من يستشعرون أنهم أصحاب دور أو بالتعبير الفخيم "ليسوا من البشر العاديين"، جائبو الشوارع والباحثون عن قوت اليوم باليوم، وتلك بالفعل سيرة الكون الصادقة والحقيقية، إذ تنفي ذلك الحنين الذي يتعامل مع المشاهدات غير المعايشة، كما تتقاطع بالنفي مع حدية الأبيض والأسود في الشخوص والنظر إليها.

لنعرف أن الناس عاشوا وظلوا ومضوا على نحو ما نعرفه، تعيش دواخلهم في انسجام جم مظاهر خير وشر تتصارعان حتي يغلب أحدهما الآخر في موقف ما، ثم ينهزم في موقف آخر، ولعل أحد من أهم ما منحته الذكريات هي تلك الاستنثاءات والمفاجآت التي يدلي بها كاتبوها عن بعض البشر وتصرفاتهم غير المتوقعة إن خيرا أو شرا، مشاركة أو صمتا، دعما أو خذلانا، وهي سلوكيات ومواقف لا تنسجم البتة مع الصورة الذهنية وتوقعات كتاب السيرة بذاتهم كما عرفوهم أو عرفوا عنهم.

وهكذا تغلب السمات والتطبع حينا وحينا، ويعيش البشر مواقفهم بين ظلي الأبيض والأسود وينتجون جيلا يعيش ذات مساحات الظل المتدرجة وهم يجتهدون في تسلق جبل الحياة عاليا.

ربما لهذا لم تعول البشرية كثيرا على فكرة الضمير والخلق وحدهما في الحكم على الناس وتأطير حركتهم وتصرفاتهم تجاه الآخرين، واخترعت القانون الذي يجعل الكل تحت مظلة مسطرة مبادئه، والتي تتوسع كل يوم بالقياس والاستنباط على ما يستجد ويطرأ من سلوك البشر، فتردعهم عن مقاربة ما يؤذي الآخرين، وهكذا يسعى البشر لتهذيب سلوكياتهم تحت مظلة لا تعول على الخلق الفردي كثيرا ولكنها تعمل وفق ما اتفق المجتمع عليه وفائدته وشره وهو تحول إنساني عظيم.

2/ الحق والخير والجمال ..

ربما وضع المثل والغاية الأسمى لغيابهما اللافت عن تحقق في واقع البشر، فضلوا محلقين عاليًا، وربما تيقنت البشرية عبر عصورها من ذلك فمنحت كل ذلك مسمى له دلالة مدهشة وأثر لغوي عذب هو الفضيلة، والتي بغيابها أو ندرتها في حياة المجتمعات تتمايز وتهفو لها نفوس الفرد تطلعا واحتراما وتبجيلا، ويصنع التدافع وجدلية صراع الخير والشر ومعه المعرفة والوعي والتجارب وتراكم الخبرات خيارات سلوك الفرد، كما تفعل ذلك متغيرات أخرى كثيرة منها القدرة وعدمها، وبحيث يقال إنه لن يمكنك أن تختبر الفرد وفضائله إلا إذا دخل في التجربة، وربما كان هذا القول للمسيح عليه السلام يدعو الله "لا تُدخلنا في التجربة"، تلك التجربة التي تعني اختيارا واختبارا وترجيحا ورغبة ثم قرارا وفعلا.

3/ حياد

لم يعرف أحد قط تلك النقطة الفاصلة تماما بين اللونين الأبيض والأسود والتي تنتصف بينهما المسافة عدلا تاما، ومن ثم سعي البشر إلى مفاهيم فضفاضة واسعة تمزج بينهما في مقولات لم يستدل أحد علي انطباقها في الحياة.

فمنذ أن تنطلق عيون الطفل الوليد نحو رؤية مشاهد الحياة فرحا أو بكاء يكتسي الكون مدلولاته لديه، ويبقي كل ذلك ينمو معه، وهكذا يحب ويكره، يفضل شيئا ولا يستلطف سواه، وربما تأسست على هذا مشاعر فياضة تصل حدها بمقولات عن "الحب من أول نظرة" والتي قد يضحك عليها البعض ساخرا، ويراها البعض ممكنة، وبين هذا وذاك اختلافات البشر، وإلا لماذا تفضل كوبا عن كوب آخر وكلها صالحة لأداء ذات الغرض بفرض توافر مقومات الاستخدام من نظافة وإتاحة، وتفضل كرسيا ما في منزلك – ليس هو الأغلى مثلا- عن آخر، بل مكانًا لوضع الكرسي عن مكان آخر، وشارعًا عن شارع، ولماذا يري البعض في واجهة بيت عادي وبسيط جدا تتراص قوالب طوبه الأحمر فوق بعضها جمالا لا يراه في واجهة منزل مزينة ومزخرفة، الخلاصة أن الإنسان خلق هكذا، يميل إلى أن يصنف اختياراته تحت ظل فئة ما واعتقاد يمنحه طمأنينة وقربا وألفة أيضا، في مواجهة فطرة تحاذر وتتحاشى أثر الخوف "خُلِقَ هَلُوعًا" المتأصل في تكوينه لتمضي به الحياة وتلهو".

إعلان