إعلان

التعليم الأزهري .. ما له وما عليه (2 ـ 10(

عمار علي حسن

التعليم الأزهري .. ما له وما عليه (2 ـ 10(

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 09 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مرّ الأزهر طيلة التاريخ الحديث والمعاصر بمحاولات عدة لإصلاح أوضاعه وتحديث بنيته، سواء كانت إدارية تتعلق بهيلكه ووضعه المالي أو التشريعات التي تحكم حركته، أو كانت تتعلق برؤيته الدينية ومناهجه التعليمية.

ولا تنشغل هذه الورقة بمسألة الإصلاح الإداري والمالي، إنما ينصب اهتمامها على ما جرى من محاولات النهوض بالدور التعليمي والديني للأزهر، بل إن هذا هو محل الاهتمام حاليا، ليس في مصر وحدها، ولا في العالم الإسلامي فحسب، بل في العالم أجمع، مع تصاعد الأخطار التي تسببها الأفكار التكفيرية التي تؤدي إلى إرهاب يهدد الجميع.

وقد بدأ الدور التعليمي للأزهر بجلوس قاضي القضاة أبو الحسن بن النعمان المغربي سنة 365 هـ ـ 975م في أول حلقة تعليمية بالجامع لأزهر تحدث فيها عن "فقه آل البيت"، وبعدها تتابعت حلقات العلم، ليحدث تطورا كبيرا في تاريخ هذا المسجد الذي وضع جوهر الصقلي حجر أساسه بأمر من المعز لدين الله، في 14 من شهر رمضان سنة 359 هـ ـ 971م، وافتتح للصلاة لأول مرة في 7 من رمضان سنة 361 هـ، وهو يستمد أسمه من السيدة فاطمة الزهراء- رضي الله عنها- والتي ينتسب إليها الفاطميون.

كان الغرض من إنشاء هذا الجامع الدعوة إلى المذهب الشيعي وتدريسه، ثم لم يلبث أن أصبح جامعة، وفق صورتها القديمة، يتلقى فيها طلاب العلم مختلف العلوم الدينية والدنيوية البسيطة، لاسيما بعد أن تحول سنة 387 هـ إلى معهد علمي في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله، لكن كان ما يقدم من علوم دنيوية لا يخضع لمساق أو منهج علمي رصين.

وكانت حلقات العلم هي طريقة وأساس الدراسة بالأزهر، حيث يجلس الأستاذ ليقرأ درسه أمام طلاب علم يتحلقون حوله، كذلك يجلس الفقهاء في المكان المخصص لهم من أروقة الجامع. وكانوا في الغالب يجلسون تحت الأعمدة، فيسمى الواحد منهم "شيخ عمود"، وحتى يحوز هذه المكانة، فلا بد له من أن يجاز من أساتذة من الشيوخ، وبعدها يتم استئذان الخليفة الفاطمي. وتنوعت حلقات الدراسة بين الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة، وغيرها.

ورغم تعطل إقامة الخطبة في الجامع الأزهر حوالي مائة عام بعد سقوط الدولة الفاطمية في مصر، إلا أن دروس العلم في الأزهر لم تنقطع تماما، حتى أعاد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس الخطبة إليه، ليسترد الأزهر بعدها مكانته كمعهد علمي، ذاع صيته في كافة أنحاء العالم الإسلامي، لاسيما بعد أن تم تزويد مكتبته بأهم الكتب في الفقه واللغة وعلوم أخرى، لتصبح واحدة من أكبر مكتبات العالم في ذلك الوقت.

ولم يقتصر التدريس في الأزهر أيامها على علوم الدين، بل امتد إلى الفلك، والحساب، والطب، والعمارة، والجيولوجيا، والتاريخ، وبعض العلوم الاجتماعية، وغيرها. ومن أشهر العلماء الذين ارتبطت أسماؤهم بالأزهر: ابن خلدون، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، وابن تغري بردي الأتابكي، والقلقشندي.

وعاد الأزهر في عهد العثمانيين إلى العلوم الدينية فقط، بل صار المكان الوحيد الذي يقدم تعليما للناس وقتها، وبالتالي يُخرِّج معلمين وموظفين للدولة، لاسيما بعد أن تحسنت أوضاعه المالية، بعد أن أوقفت له أوقاف عديدة، إلى جانب دوره في الدفاع عن حقوق الناس أحيانا في مواجهة الظلم والعسف، والذي بلغ ذروته بقيادة شيوخ أزهريين انتفاضات المصريين ضد الاحتلال الفرنسي، ومن بعدها خلع الوالي العثماني خورشيد باشا وتعيين محمد علي بدلا منه، والذي بدوره لم يجد أمامه بالطبع سوى خريجي الأزهر ليكونوا نواة لمختلف المعاهد الحديثة التي أنشأها، ويكونوا هم المبتعثين، لتلقي العلوم الجديدة في أوروبا.

وفي نظر من يريدون للأزهر أن يكون جامعا وجامعة فإن أول محاولة حقيقية لإصلاح التعليم الأزهري أكثر من ثمانية قرون، إذ تمت أيام تولي محمد العروسي المشيخة، خلال الفترة المتراوحة بين 1818 و1829، حيث سعى إلى إدخال علوم الطب والكيمياء والطبيعة، في تطورها الأخير، لتشكل جزءا من المناهج التعليمية للأزهر، لكن سعيه خاب، نظرا لعدم اقتناع القائمين على الأمر وقتها بأن الأزهر يمكنه أن ينتج تعليما وعلما خارج الدين. ولما جاء من يقتنع بالفكرة مات العروسي فدفنت معه مؤقتا.

وقد انتعش الدور التعليمي للأزهر في العصرين المملوكي والعثماني، بعد طول إهمال في عهد الأيوبيين لحساب مدارس اختصت بتدريس فقه المذهب السني، لكن هذا الانتعاش كان بمثابة توسع أفقي في هذا الدور، حيث زيد في عدد المدارس الدينية بعد تجديد بناء الأزهر وتوسيع مساحته، فزاد معها عدد الطلاب الملتحقين به، وعدد المدرسين الذين يعقدون حلقات العلم الديني فيه.

لكن ظل الأمر مقصورا في أغلب الأحوال على تدريس العلوم الدينية من فقه وحديث وتوحيد ومنطق وعلم كلام، إلى جانب مبادئ في علم الفلك والرياضيات والآداب. ولم يكن مستغربا في ذلك الزمان، حيث كان علماء الدين والفقهاء يعنون بأمور الطب والفلسفة والفلك والحساب وغيرها، قبل أن تتشعب العلوم على المستوى المعروف في أيامنا.

ولم يكن الطلاب مقيدين بالانتظام في حضور دروس العلم، ولم تكن هناك لوائح تنظم سير العملية التعليمية، وتحدد مناهج الدراسة ومدتها وأعضاء هيئة التدريس. بل كان الطلاب أنفسهم يتحكمون في تعيين مدرسيهم، من خلال الإقبال على حلقاتهم من عدمه. فمن يداوم الطلاب على حضور دروسه، وتتسع حلقته العلمية، يجيز شيخ الأزهر صلاحيته للتدريس، والعكس صحيح.

ووضع الشيخ حسن العطار الذي تولى مشيخة الأزهر في الفترة من 1830 و1834، لبنة جديدة في بناء إصلاح التعليم الأزهري، مستغلا علاقته المتوازنة مع محمد علي، من جهة، وسعة اطلاعه من جهة ثانية، إذ كان ملما، إلى جانب علوم الدين، بعلم الفلك والطب والكيمياء والهندسة والموسيقى والشعر، ما حدا بالمؤرخ المصري العظيم عبد الرحمن الجبرتي إلى أن يصفه قائلا: "قطب الفضلاء، وتاج النبلاء ذو الذكاء المتوقد والفهم المسترشد، الناظم الناثر، الآخذ من العلوم العقلية والأدبية بحظ وافر".

وقد استفاد العطار المعروف عنه نزعته التجديدية، مما خلفته الحملة الفرنسية من علوم، ومن رحلاته إلى أوروبا وبلاد الشام، في سعيه إلى إصلاح الأزهر، وكانت الثمرة إنتاج جيل من رواد النهضة المصرية الحديثة، ممن تتلمذوا على يد العطار، وفي مقدمتهم رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمد عياد الطنطاوي.

إعلان