إعلان

نحو سياسة جديدة لتمويل النظام التعليمي في مصر(8)

نحو سياسة جديدة لتمويل النظام التعليمي في مصر(8)

د. عبد الخالق فاروق
09:01 م الخميس 24 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أظهرت الدراسة التي قدمناها أن حجم الإنفاق الحكومي على التعليم (الجامعي وقبل الجامعي) قد بلغ في العام المالي 2004/2005 حوالى 26 مليار جنيه، 2018 ، وأن الإنفاق العائلي الرسمي وغير الرسمي على التعليم قد تراوح بين 37.0 إلى 52.0 مليار جنيه في نفس العام ، وإذا أضفنا جوانب الإنفاق العائلي الأخري المرتبطة بالعملية التعليمية (نفقات ملابس وتغذية وانتقالات ومصروف جيب للأبناء) فربما يكون حجم الإنفاق العائلي قد تجاوز 50.0 إلى 70.0 مليار جنيه، وبالإجمال فإن الإنفاق المجتمعي على التعليم ربما يقدر بنحو 100 مليار جنيه بما يكاد يعادل 15% من الدخل القومي ذلك العام.

وزاد الانفاق الحكومي على التعليم عامًا بعد آخر حتي قارب 106.0 مليار جنيه في موازنة عام 2017/2018 ، بينما جاوز الانفاق العائلي على تعليم أبنائهم سواء في المدارس الحكومية أو المدارس الخاصة، أو الجامعات والمعاهد الحكومية والخاصة، وكذلك على الدروس الخصوصية وغيرها من النفقات حوإلى 200.0 مليار جنيه أخرى.

أي أن الانفاق المجتمعي على التعليم في مصر عام 2017/2018 يزيد على 306.0 مليار جنيه، بما يكاد يقارب 10% من الدخل القومي، بما يعني انخفاض نسبته إلى إجمالي الدخل القومي، برغم زيادته كميا ورقميا.

وبرغم هذه النفقات الضخمة – سواء الحكومية أو العائلية – فما زال النظام التعليمي المصري يعاني من عدة أمراض مستعصية على الشفاء، تجعل كفاءته محل شك كبير من جانب المتخصصين في هذا المجال، وتصيب خريجيه بعجز عن التلاؤم مع سوق عمل يتغير بصورة متسارعة من ناحية، وتقل فيه فرص العمل من ناحية أخرى.

كما تتآكل فاعلية "المدرسة العامة" أو "المدرسة الحكومية"، مقابل المدارس الخاصة بمختلف مستوياتها وأنواعها.

ومن هنا فإن استعادة الحيوية "للمدرسة العامة" أو الحكومية، ورفع قدرتها للتعليم والتنافسية هو مفتاح الموقف كله في تحقيق نتائج ايجابية للتعليم المصري حتي لو جاء ذلك على حساب "لوبي" مصالح مالية تشكل طوال العقود الأربعة الماضية في مجال التعليم، وتعزز بمناخ غير إيجابي داخل المدارس الحكومية بفعل تدني الأجور والمرتبات للمدرسين والعاملين عمومًا في حقل التعليم العام.

ولاشك أن التمويل المناسب للتعليم قبل الجامعي في مصر يتركز في عنصرين أساسيين :

الأول: هو تعديل نظام الأجور والمرتبات لكادر المعلمين بما يحفظ كرامتهم ويتناسب مع مقتضيات ضرورات المعيشة، وبما لا يقل عن ثلاثة آلاف جنيه كحد أدني لأجر المعلم في بداية مربوط التعيين.

الثاني: تخصيص اعتمادات مناسبة لبناء المدارس والنزول بتكدس وكثافة الفصول إلى المتوسط المناسب أي 30 تلميذ/ فصل، وهو ما يحتاج إلى بناء 35 ألف إلى 40 ألف فصل جديد خلال السنوات الخمس القادمة أي بمتوسط ألف مدرسة إلى 1200 مدرسة سنويا خلال تلك الفترة، ولن يصلح لهما أي حديث حول استخدام الوسائل الحديثة مثل التابليت أو غيرها كبدائل للوجود المدرسي.

وهذان العنصران يحتاجان إلى تمويل إضافي يعادل حوالى ثلاثين مليارًا، إضافية على الاعتمادات السائدة في العام 2017/2018 ، وهى قدرات مالية متاحة في المجتمع إذا ما أمكن استنفار طاقة المجتمع المصري وفئاته المختلفة، وفقًا لخطة عمل منظمة ومدروسة تعتمد خطابًا إعلاميًا وسياسيًا إيجابيًا، إضافة إلى مجموعة من الإجراءات والسياسات ترد الاعتبار "للنظام التعليمي الحكومي الرسمي" ولمفهوم المشاركة المجتمعية، وفي إطار احترام الحق الدستوري "بالمجانية".

ولكن قبل هذا ينبغي تشخيص حال التمويل الحكومي الراهن لنظم التعليم (الجامعية وما قبل الجامعية) لتحديد أوجه الضعف ومناط الثغرات القائمة فيها حتي نتمكن من تجاوز المشكلات الراهنة في التمويل الحكومي والعائلي لنظم التعليم الحالية.

أولا : ثغرات نظام التمويل الحكومي الراهن:

أظهرت الدراسة التي عرضنا لها مجموعة من خصائص نظام التمويل الحكومي للتعليم أبرزها:-

أن حوإلى 93% إلى 95% من الاعتمادات السنوية للتعليم قبل الجامعي تتجه إلى الباب الأول (الأجور والمرتبات والمكافآت)، بينما لا تحظي النفقات الجارية ونفقات التشغيل عموما سوي بأقل من 5% إلى 7% .

أما الاستثمارات (الباب السادس) فقد انفردت به هيئة الأبنية التعليمية طوال السنوات الممتدة من عام 92/1993 حتي عام 2004/2005 ، وقد شهدت هذه المخصصات زيادة كبيرة في السنوات الأولى التي أعقبت زلزال أكتوبر عام 1992، ثم أخذت في التناقص في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، ومع أخذ معدلات ارتفاع أسعار مواد البناء وتكلفة التشييد عمومًا فإن هذه المخصصات لم تعد تكفي لإقامه وتنفيذ خطة فعالة، لتخفيف حدة الكثافة وإعادة صيانة وترميم البنية الأساسية للنظام التعليمي الحكومي.

وأبرز ما أظهرته الدراسة أن بند المكافآت (بند 5) قد تعاظم دوره في إجمإلى الاستحقاقات الأجرية التي يحصل عليها العاملون في المديريات التعليمية الذين يزيدون على 1.6 مليون مدرس وموظف وعامل، بحيث أصبح يشكل حوإلى 40% في المتوسط من إجمإلى تلك الاستحقاقات السنوية، وبرغم أهميته القصوي في زيادة دخول العاملين في حقل التعليم فإن احتجازه في صورة "مكافأة امتحانات" أو تصحيح للامتحانات "يؤدي عمليًا إلى انعدام تأثيره اليومي أو الشهري على أجور ومرتبات العاملين بالتعليم.

إن الحاجة قد أصبحت ماسة لإعادة ترتيب أولويات الموازنة العامة للدولة بحيث يجري تقليص المخصصات غير الجوهرية (المهرجانات – والطرق والكباري - العاصمة الإدارية .. إلخ)، لصالح صندوق دعم التعليم الحكومي خاصة بند الاستثمارات في بناء المدارس تحديدًا دون غيرها، وتجهيزها بكل الوسائل التي تجعلها "مدرسة تنافسـية" في "سوق تعليمية" أصبح بقدر تنوعه وتعدده، بقدر ما يتميز به من فوضي قد تؤدي إلى أضرار على مستقبل الهوية القومية والوطنية للأجيال الجديدة.

بالنسبة للتعليم الجامعي لم تزد مخصصاته عام 2004/2005 على 5.3 مليار جنيه استحوذ منها الباب الأول "الأجور والمرتبات" على حوإلى 69.5% بينما كان في العام 95/1996 يشكل حوالى 61.0%، وهذا التغير الطفيف في بند الأجور والمرتبات والمكافآت بالجامعات الحكومية لم ينعكس إيجابيًا على "كادر التدريس"، نظرًا لضخامة حجم "الهيكل الإداري" بهذه الجامعات الذي يزيد على 220 ألف موظف وعامل، بينما العاملون في حقل التدريس الجامعي لا يزيدون على مائة ألف أستاذ جامعي (أي يشكلون 31% من إجمإلى العمالة بالجامعات)، وقد زادت مخصصات التعليم الجامعي في موازنة عام 2017/2018 إلى حوالى 26.0 مليار جنيه، ومن ثم فإن اختلال التوازن الوظيفي داخل الجامعات المصرية يؤدي إلى عدم التحسن المطلوب في أجور ومرتبات أساتذة الجامعات المصرية لامتصاص معظم الزيادة التي حدثت في السنوات العشرة الماضية في الباب الأول في أجور ومكافآت الكادر الإداري.

وإذا جاز لنا أن نعيد النظر في نظام تمويل التعليم باعتباره إحدى وسائل رفع كفاءة العملية التعليمية، خاصة التعليم العام (الحكومي) فإننا نقترح مجموعة من السياسات الجديدة تتمثل في الآتي:

ثانيا : إعادة هيكلة الإنفاق الحكومي:

أظهرت الدراسة أن بند "المكافآت" وبقية عناصر الأجور المتغيرة، قد أصبحت تشكل أكثر من نصف المستحقات الأجريةCompensation–Wage للعاملين في حقل التعليم، وأن "المكافآت" تظل معلقة إلى نهاية العام الدراسي بما يؤثر على كفاءة هذه النفقة ودرجة فاعليتها على مستوي معيشة المدرسين والعاملين عمومًا في حقل التعليم، ومن ثم فإن وضع إطار معياري جديد يسمح بتوزيع هذه المكافآت على مدار شهور العام الدراسي، ربما تكون أكثر فائدة في تخفيف أثر الإلحاح الضروري الذي تفرضه مقتضيات المعيشة وتدني الأجور والمرتبات للعاملين في حقل التعليم الحكومي، وجلهم تقريبًا يعملون بنظام الإدارة المحلية بالمحافظات، ومن شأن هذا الأسلوب الجديد زيادة الدخل الوظيفي الرسمي للمدرسين والعاملين في حقل التعليم بنحو 50% إضافية شهريا.

قد يكون هناك ضرورة "للتمييز الإيجابي" في المعاملة المالية والإدارية بين العاملين في التدريس Teachers، وبين بقية العناصر الإدارية والمكتبية العاملة في حقل التعليم الحكومي، حيث يشكل الأخيرون حوالى 40% تقريبا من مجمل العاملين في قطاع التعليم، وهو ما حاول القيام به القانون رقم 155 لسنة 2007 بتعديل بعض أحكام قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981 (المسمي إعلاميًا بقانون الكادر الخاص للمعلمين). وإن ظلت المحاولة محدودة الأثرعلى المدي المتوسط والطويل.

إعادة النظر في النظام الراهن "لمجموعات التقوية الدراسية" بحيث يتعزز دورها العلمي من ناحية، وتعد مصدرًا حقيقيا للدخل الإضافي "القانوني" للمدرسين من ناحية أخري، وتمثل وسيلة جذب لبعض الفوائض المالية لدي فئات اجتماعية من ناحية ثالثة، وبما يتواءم مع مستويات المعيشة والدخول للأسر المصرية من ناحية رابعة، ثم أخيرًا توزيع عوائدها بين أطرافها المشاركة فيها مباشرة (المدرسون – الإدارة المدرسية)، بما يحفظ حقوق تلك الأطراف بصورة حقيقية ومتوازنة، مع تشديد الرقابة والتفتيش المركزي عليها. ولن يكتب لهذه الخطة النجاح إلا إذا كانت متكاملة مع تشديد إداري وقانوني وحظر اجتماعي وأمني لدكاكين الدروس الخصوصية المنتشرة في مقار الجمعيات الأهلية، والمساجد والكنائس ومقار الأحزاب في المقرات الخاصة والمنازل.

4- تنشيط جاد لسياسات ومفهوم "التبرع الطوعي" لأولياء الأمور وهيئات المجتمع المدني ورجال الأعمال وغيرهم تحت إشراف "مجالس الآباء" من ناحية، والأجهزة الرقابية من ناحية أخري بحيث يرتبط حجم التبرع الطوعي بتوسع المدارس في الأنشطة التعليمية وغير التعليمية، وتعزيز ممارسة "اللا مركزية" المسئولة، والخاضعة للرقابة المجتمعية من جانب الطلاب واتحاداتهم و"مجالس الآباء" معا.

5- أن الطاقات المالية المتاحة للأفراد والجماعات في مصر، تسمح – إذا ما استعادت الثقة المفقودة بين الأجهزة التنفيذية والإدارات التعليمية والمدرسية من جهة والمواطنين من جهة أخري – في توفير قدر لا يقل عن 15 إلى 25 مليار جنيه سنويا على الأقل في صورة تبرعات وهبات للمدارس والجامعات، وبالتالي فإن مسئولية استعادة الثقة هى مسئولية حكومية وتنفيذية بامتياز، ولن يتحقق ذلك من خلال حملات إعلانية أو إعلامية، أو حملات علاقات عامة بقدر ما تتأسس على "مقرطة"Democratization العملية التعليمية وممارسة الرقابة المجتمعية ، والمشاركة في صنع سياسات وأنشطة المدارس في كافة ربوع البلاد عبر تنشيط دور اتحادات الطلاب ومجالس الأباء.

6- ضرورة وقف التوسع فورًا في الاستثمار الخاص الهادف إلى الربح في التعليم، سواء في المرحلة قبل الجامعية أو المرحلة الجامعية، لما تؤديه من عملية فرز اجتماعي سلبي على المواطنين وعلى الطلاب أنفسهم، وهو تأثير متراكم الأثر على المدي المتوسط والطويل، فتخلق ركائز لتحطيم وحدة الهوية الوطنية المصرية والعربية، خاصة مع زيادة المدارس الأجنبية والجامعات الأجنبية.

7- البحث عن صيغة خلاقة ورايديكالية لدمج التعليم الديني والأزهري في التعليم العام والمسار الذي يعزز المواطنة.

8- إذا قدرنا عدد أفراد مجموعة الدروس الخصوصية بالثانوية العامة، ثمانية طلاب ومتوسط سعر الحصة للطالب في المادة الواحدة خمسة وعشرون جنيهًا ومدتها ساعة واحدة، فإن متوسط دخل المدرس الخصوصي يعادل 150 جنيهًا، وبافتراض أنه يعمل 5 مجموعات يوميا في الدروس الخصوصية، يصبح متوسط دخله اليومي من الدروس الخصوصية 750 جنيهًا، وبافتراض عمله 20 يوما شهريًا، بالتالى يصبح دخله الشهري يعادل 15ألف جنيه، وإذا افترضنا أنه يعمل في السنة لمدة 10 شهور فقط يصبح دخله السنوي يعادل 150 ألف جنيه!

هذه الدخول المسمومة لن يقبل أصحابها التنازل بسهولة عنها، ومن ثم فإن إدارة حرب حقيقية ضد هذا السلوك هو المدخل الصحيح والضروري لنجاح استعادة المنظومة التعليمية من مافيا الدروس الخصوصية، شريطة أن يتحقق الشرط الأول الخاص بتعديل جدول الأجور والمرتبات الراهن للمعلمين.

إعلان

إعلان

إعلان