إعلان

شباك أخضر يُطل على فناء المدرسة  "قصة قصيرة"

شباك أخضر يُطل على فناء المدرسة "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 02 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أبخرة تتصاعد من أفواه الأطفال الذين يقفون في فناء المدرسة الابتدائية كلما تنفسوا أو تكلموا. الشتاء بارد جدا ذلك العام، ويبدو شكل الأطفال جميعهم ممتلئاً وهم يرتدون طبقات الملابس المتتالية على أجسادهم. يمتد الفضاء الذي يشكل فناء المدرسة على مساحة ملعب كرة قدم كبير وينتهي في كل طرف بقائمين وعارضة يشكلان مرميين متقابلين، يحيط بالفناء كله سور قصير ملون بالأبيض، عند الوصول مبكرا قليلا والانتظار في المساحة المتسعة يزيد إحساس التلاميذ ببرودة الطقس، فيشكلون مجموعات صغيرة متناثرة، يقفون وهم يتسلّون بالحديث أو بتمرير الكرة لبعضهم في انتظار موعد الطابور الذي يتبقى عليه خمس دقائق.

يسارع الأستاذ عبد الراضي عند حضوره في تنظيم وقوف التلاميذ في الطوابير وفقا للفرقة الدراسية وتراتب الفصول. تلاميذ السنة الأولى بفصولها الثلاثة هنا بالجوار تماما لمدخل المبنى الكبير، وفي مواجهة الطوابير إلى الأمام براح كبير يمتد متصلا بسماء تبدو غائمة في هذا اليوم الشتوي.

يظهر أعلى الجانب الأيسر لسور المدرسة مبنى إداري لإحدى الشركات، ثلاثة شبابيك شيشها أخضر قاتم تتراص رأسيا، ثم جميعها تعلو طابقاً لا نراه من مكاننا هنا ونعرف أن به باباً حديدياً متسعاً يدخل منه الموظفون والعمال إلى حيث أماكن عملهم التي تتوزع على غرف المبنى.

لايزال الشباك ذو الشيش الأخضر في الطابق الثالث تحديدا مغلقاً حتى الآن، والأستاذ عبد الراضي لم يصل بعد، وحين يصل سيبدأ التلاميذ الأكبر سناً بمعاونة بعض المدرسين والمدرسات في إضفاء إيقاع الانتظام على طوابير فصول المدرسة الابتدائية، والتي تبدأ بتحية العلم، وبعدها يؤدى التلاميذ التمارين الرياضية المختلفة، وتليها فقرات الإذاعة المدرسية، وهكذا وقبل أن يبدأ تنظيم طابور الصباح يكون الأستاذ عبد الراضي مدرس التربية الرياضية قد وصل وانتصف مساحة الفناء الكبير، طويلا تخرج ياقة قميصه من أطراف بلوفر لبنى لا يُظهر تأثرا بالبرودة فيبدو لنا كشخص أسطوري، يتخذ موقعا محددا يتحرك في نطاقه، ليكون في مواجهة المبنى الذي في اليسار، في تلك اللحظة تحديدا يفتح الشباك وتظهر الفتاة، حينها يتحرك أستاذ عبد الراضي كثيرا في مساحته وعيونه في اتجاه الشباك الذي تقف الفتاة تتصدر مجالا محدودا من فراغه المتاح أمام عيوننا.

نعرف نحن تلاميذ المدرسة ذلك، كثيرون ينظرون مسرعين ويصمتون، والمشاغبون يبحلقون ثم يتتبعون ملامح وجه الأستاذ عبد الراضي، تمضي الأيام هكذا، ونتعرف على مزاج الأستاذ عبد الراضي وإيقاع الطابور من ملامح فتاة الشباك العلوي ذي الشيش الأخضر المطل على المدرسة، سيكون نشيطا تماما وصوته عاليا مرحا، وهو يقول لنا هذا تمرين جديد انتبهوا، بينما يؤديه برشاقة وابتسامة، فنقلده وننسى فتاة الشباك قليلا، يمتلئ صوته بحيوية وقد تطول مدة الطابور حتى يلمح أحد المشاغبين ابتسامة خفيفة على وجه فتاة الشباك وينبهنا.

وسيمضي الطابور بطيئاً مملاً حين يظهر وجهها محايداً أو يتشاغل بمحاولة النظر بعيدا عن فناء المدرسة، وسيصمت الأستاذ راضي أكثر حين يتأخر فتح الشباك أو تظهر الفتاة وتختفي سريعا.

أستاذ عبد الراضي شاب صغير له عام واحد في هذه المدرسة وأحبه التلاميذ كثيرا، لكنه في ذلك الأسبوع الذي لا نرى فيه الشباك مفتوحا يصير آخر لا نعرفه، يبدو واجماً يؤدي عمله مفتقداً شيئا ندركه، بينما عيونه تطل هناك ولا تبارح، في اليوم الثاني نرى الأستاذ راضي وهو يجلس لأول مرة على المنصة الإسمنتية التي تتوسط الفناء ويترك زميله يقود تمرينات الصباح، ونعرف بعدها من حديث التلاميذ أنه متعب.

لكنه يعود في الأيام التالية في ذات الأسبوع يؤدى عمله بصوت قوى وحركات سريعة لا تصاحبها ابتسامة نعرفه بها، ينفتح الشباك ثانية في أول يوم دراسي بعد نهاية ذلك الأسبوع، وتمضى أيام المدرسة على منوال متنوع كهذا تحكم إيقاعاته فتاة الشباك الأخضر، وبعد انتهاء إجازة منتصف العام سنوقن أن تلك الموظفة الصغيرة التي توقّع أوراقاً للناس الداخلين في تلك الغرفة ذات الشباك ستشكل حالة الفناء صباحا، تمنحه الفرح حين تبدأ فتح الشباك مبكرا ونرى ما يشبه ابتسامة في خجل، وقد تدخله حيرة تظهر في ارتباك وجه أستاذ راضي، بينما هو في انتظار مدة تبدو لنا زمنا طويلا في المسافة بين نظرتين في اتجاه الشباك.

الفتاة هي من الموظفات اللواتي يحملن شهادة متوسطة ويتم تعيينهن في عمل إداري في مبنى هذه الشركة، نراها أحيانا في صباح يوم في طريقنا نحو المدرسة تهبط أمام محطة الباص وتمضي في الطريق معنا، تبدو أخرى غير تلك التي نشاهدها بعيوننا عبر شباك الطابق الثالث المجاور للمدرسة، تحمل حقيبة كبيرة ثم تقف دائما عند المخبز الصغير في منتصف الشارع تشترى أرغفة الفينو تضعها في حقيبة بلاستيكية وتمضي، متوسطة القامة تحمل ملامحها إرهاقاً ما، في كل مرة نتشكك في أنها فتاة الشباك التي شكّلها خيالنا مختلفاً.

تأتى أيام أخرى يكون فيها الأستاذ راضي أكثر تأنقاً، وإضاءة أكبر تبدو في وجهه، يكون الوقت أوان الربيع حيث يرتدى الأستاذ راضي قميصا بأكمام ويشمرها حتى منتصف المرفق فيبدو على شكل شخص رياضي نراه في شاشة التليفزيون الأبيض والأسود، ويمضي وقتاً أطول معنا، يجري قبلنا مسابقا في فسحة ما بين الحصص، ويقسمنا إلى مجموعات في وقت حصة الألعاب الرياضية، يمنح الفريق الفائز حلوى صغيرة "كراملة" ويقدمها أيضا للفريق الخاسر وهو يقول: "الروح الرياضية" نضحك على الاسم ونسأل في خبث: كيف يتم منح الخاسرين جوائز؟ ولماذا ونحن جميعا نتعمد عرقلة بعضنا في المباريات؟ إذن الكل يفوز بجوائز الأستاذ راضي.

كل نهار شتوي مبكر وهو يسعدنا ونفرح معه كثيرا نفكر أن نرسل بعضنا ليقول لتلك الفتاة الموظفة والتي تشتري يوميا أرغفة الفينو من المخبز الذي في منتصف شارع المدرسة، تلك الفتاة التي تحجب مساحة ضئيلة من شباك الطابق الثالث، نفكر أن نقول لها: من فضلك اضحكي كل يوم لنفرح جميعا، نفكر دوماً هكذا ونتهامس بذلك لكننا لم نفعل أبداً.

إعلان

إعلان

إعلان