إعلان

أبونا.. يحيى حقي

أبونا.. يحيى حقي

محمد شعير
09:00 م الخميس 14 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يحيى حقي مدرسة متفردة بذاته. إذا كان نجيب محفوظ نموذجًا للكاتب الصارم الذي يأخذ نفسه بجدية شديدة، لا يؤمن بأن الكتابة مجرد موهبة إذا لم تقترن بالمثابرة والدأب وعدم اليأس، فإن يوسف إدريس على العكس هو أشبه بالأشجار البرية التي تنمو تلقائيًا، يمكن أن تكون مفيدة أحيانًا، وغير مفيدة في أحيانٍ أخرى.. رجل يعتمد على موهبته "الحوشية" حسب تعبير إدوار الخراط.. قد يفخر بأنه لا يقرأ، وأنه يتلقى الكتابة وحيًا.

يحيى حقي هو نموذج آخر مختلف عن القطبين الكبيرين، هو أشبه بالفلاح المصري الذي يحرث الأرض، ويعتني بنباتاته، يسقيها وينقيها من الأعشاب الضارة أولاً بأول.

هو قطب بذاته، الكتابة لديه موهبة، ولكن شرط استمرارها وبقائها أن تنميها، تعتني بها، تشحنها دائمًا بالجديد والمثير والدالّ. لم يكن "أنشودة للبساطة" مجرد عنوان لأحد أمتع الكتب في العربية فحسب، إنما يصلح أيضًا ليكون تعبيرًا عن حياة كاتبه وإنجازه الأدبي والنقدي واللغوي على السواء. يحيى حقي (1905-1992) الذي تحتفل الثقافة المصرية بالذكرى الــ25 على رحيله هذه الأيام، ابن الذوات، ذو الأصول التركية، درس الحقوق في مدرسة أصحاب الياقات البيضاء في مصر، ثم عمل سفيرًا متنقلًا بين باريس وروما ولندن وأنقرة، وبعض البلاد العربية. مع ذلك، كان مخلصًا لمنطقة السيدة زينب الشعبية والمناطق المحيطة بها حين دخل عوالم الأدب، نقل لنا ببساطة متناهية هذه العوالم، وانتقل الأدب العربي ـــ على يد عدد من أبناء جيله - نقلة أخرى، بعدما كان مقتصرًا على الترجمة والتعريب أو الكتابة "الاستعمارية" التقليدية.

كتب حقي "قنديل أم هاشم"، و"البوسطجي"، و"دماء وطين"، و"أم العواجز"، وغيرها بأسلوبه الهامس، ولغته الخاصة، تلك اللغة التي تبتعد عن الغموض، والتهويل، والصراخ، والتعقيد، والخطابية.

اللغة بالنسبة إليه وسيلة لنقل الأفكار، إذا كنت لا تجيدها، فأنت لا تستطيع أن تفكر. لذا كان ينفر من "اللت والعجن"، والكليشيهات الجاهزة المعدَّة سلفًا. يقضي أيامًا يروح ويجيء من أجل لفظة دالة، أو من أجل الكلمة الأولى في نصه القصصي أو مقالته الصحفية. لم يخجل ابن الذوات - بل ربما عمد على ذلك كرد فعل ينفي به برجوازيته - إلى تطعيم كتاباته بالعامية ابنة الخيال الشعبي، والأمثال الشعبية والعبارات الدارجة. سيرته حملت عنوان "خليها على الله"، و"كناسة الدكان". أصبحت هذه العبارات جزءًا لا ينفصل من السرد والوصف والحوار داخل أعماله.

قد يكون مشروعه بالأساس مشروعًا لغويًا، لذا كتب في سيرته الذاتية "أشجان عضو منتسب": قد أرضى أن تغفل جميع قصصي وكتاباتي، ولكني سأحزن أشد الحزن إذا لم يلتفت أحد إلى دعوتي للتحديد اللغوي في محاضرتي "حاجتنا إلى أسلوب جديد".

في المحاضرة التي ألقاها في جامعة دمشق عام ١٩٥٩ قال حقي: "إننا -فيما أعتقد- لن نصل إلى إنتاج أدب نجد فيه نحن أنفسنا أولًا، ومقنعًا لنا، ثم يصلح ثانيًا للترجمة والنقل إلى الثقافة الدولية، إلا إذا تخلصنا مما نحسُّ به في أساليبنا من عيبين كبيرين: الميوعة والسطحية، لنعتنق بدلًا منهما التحدي أو الحتمية والعمق. أما اشتراط صفة الصدق لهذا الأدب، فأمر مُسلَّمٌ به". الأسلوب الذي يطالب به يحيى حقي، ينبغي أن يكون بسيطًا، بل شديد البساطة، فعنده أن عازف العود الماهر هو الذي لا يُسمعك خبطة الريشة، كذلك الكاتب البارع يجب ألا يُسمعُ قارئه صريرَ القلم. ربما من هنا كان انحيازه الأدبي إلى ابن المقفع، لا الجاحظ.. كما يكتب في رسالة إلى عميد الأدب العربي طه حسين: "فلا عجب حينما صادفني الجاحظ فيما بعد أنني لم أخضع لسحره وفهمت ألاعيبه وخطرها على الناشئين من كتابنا‏، وظل إخلاصي باقيًا لابن المقفع‏.‏ وإني أحاول في كتاباتي الأخيرة ـ ولم أنجح ـ أن ألفت النظر إلى إمكانيات الأسلوب المعتمد على الجمل القصيرة المنفصلة باعتباره خير ثوب للدقة التي ننشدها".

رغم هذا الولع بالغة إلا أنه أيضًا لم يتخلَّ عن الواقع ومواجهة بؤسه، في عام 1955، ومع إحساسه بصعود ديكتاتورية عبدالناصر، كتب نصه الرمزي "صح النوم".. التي أرسل أول نسخة منها إلى طه حسين، مع رسالة توضيح: هذه أول نسخة أتسلمها من المطبعة من قصة كتبتها أخيرًا‏، أقدِّمها لك،‏ اعترافًا بفضلك عليّ سابقًا ولاحقًا إن شاء الله‏.‏ وما أظنك لا تحب إلا أن أكون شديد الحرص على معرفة رأيك فيها‏.‏ كتبتها استجابة لدوافع عدة‏:‏ أنفت أن أحداث مصر لا تجد لها صدي في الإنتاج الأدبي‏,‏ قد بحثها المختصون ـ كل من ناحيته ـ في السياسة أو الاقتصاد أو التاريخ وبقي الجانب الإنساني ـ مع أنه الأساس ـ للأفراد والزعيم علي حد سواء‏,‏ مختبئا لا تسلط عليه بعض الأضواء‏.‏ وكذلك لا شك أن الأخطار المحيقة بمصر في الداخل والخارج، هي التي تفرض نظام الحكم فيها‏،‏ وهذا النظام يتاح له الاستقرار والوضوح والنمو‏،‏ إذا استند إلى فلسفة تميزه عن بقية أنظمة الحكم بقدر ما تكون هذه الفلسفة تعبيرًا عن حاجة البلد‏.‏ فرأيت أن الطريق الذي نسير فيه يحتاج أيضًا إلى التنبيه برفق إلى كيان الفرد إزاء المجتمع‏، وحتى الأدباء الذين يدافعون عن أنظم الحكم الشمولي يدافعون، من حيث لا يشعرون، عن كيان الفرد‏،‏ بدليل أن إنتاجهم هو وليد الشعور بذاتيتهم‏,‏ فإذا قدر لـ"صح النوم" أن تجد لها من يصغي إليها، فإنها قد تقلل أيضًا من شعور الخوف الذي يشلّ كثيرًا ممن يرجى منهم المشاركة والنشاط والإنتاج.‏

يحيى حقي لم يكن مجرد كاتب كبير، عاشق للغة، بل ألقى بحنانه الأبوي على أجيال كاملة من الكتاب جاءت بعده. احتضنها وتبناها وقدمها عندما رأَس تحرير مجلة «المجلة» في ستينيات القرن الماضي. لذا كان هو "الأب الحنون" والأستاذ.

 

إعلان