إعلان

فريضة الجهل المقدس..!

محمد أحمد فؤاد

فريضة الجهل المقدس..!

11:50 ص الأربعاء 02 يوليه 2014

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد أحمد فؤاد:

لم يعد الصمت بمثابة الملاذ الآمن لأصحاب العقول، ولا أُعده تكتيك حكيم يكفي لمواجهة الحملات الضارية التي يقودها الظلاميون الجدد من أنصار التعصب والرجعية ضد العقل البشري، وتجدهم يهدفون من وراءها فقط محاولة اكتساب المكانة والقدسية التي أحرزها المعلمون الأوائل مع بوادر عصور التنوير التي واكبت ظهور الديانات السماوية الثلاثة، فمع ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام لاحت في الأفق تعاليم ومفاهيم أكثر تحضراً على الجانب الفكري والأخلاقي والسلوكي لبني البشر، ومعها جاء هذا العرض الإلهي السخي ليهذب بقدر ما من سلوكيات الغرور والعجرفة التي أصابت الحكام ورجال الدين على مر العصور منذ البدايات الأولى..!

جاء ظهور الأنبياء والرسل لتذكير بني البشر بقدرات إلهية سرمدية وفائقة، تجدهم تعمدوا اغفالها كلما ازداد التطور الاجتماعي لديهم، وسرعان ما كانوا يتحدونها إلى حد الإنكار أحياناً، فكان من الطبيعي تفعيل مسلسل مُحكم من مراحل التذكير بقدرات المولى عز وجل عن طريق الأنبياء والرسل عليهم جميعاً الصلاة والسلام، حتى إذا ما اكتملت ملامح الصيغة النهائية لمنظومة العقل البشري، تبدأ إذا مرحلة المسئولية المباشرة بين الفرد ونفسه تجاه ربه دون الحاجة لوسيط روحاني أو مرشد ديني أو منسق علاقات محترف، وعليه حينها دون غيره تحمل تبعات اختياراته حتى تأتي ساعة البعث والحساب حيث تنتهي مرحلة الاختيار، ويصبح الإنسان مُسيّراً في مرحلة ما قبل الخلود..

الجهل المُركب هو أخطر أنواع الجهل، ويعني اصطلاحياً فهم الأمور على خلاف ما هي عليه، سواء عمداً أو غير ذلك..  وهذا أمر دأب مع الأسف على تفعيله والانتفاع من وراءه بعض المحتالين ارتدوا زيفاً عباءات رجال الدين، وأدخلوا أنفسهم وأدخلونا في صراعات وهمية باسم الشريعة، سواء في اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، وتجدهم أبعد ما يكونون عن التطبيق السليم للشرائع في أي ديانة..  ففي الأديان الثلاثة وبعد انقطاع الوحي المباشر، وانتهاء عصر الأنبياء والرسل، الذي أعلنه في خطبة الوداع رسول البشرية وخاتم الأنبياء سيدنا ''محمد'' سيد الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاة والسلام، بدأت تظهر في كل عصر من العصور التاريخية ملامح تدخل رجال الدين في حياة البشر، وبلا سند فقهي أو مرجعية شرعية نَصّب بعضهم أنفسهم كوسطاء بين الأرض والسماء، في محاولة  أظنها مفضوحة بمفاهيم العصر الحديث، لا لشيء إلا لوأد صفة العقل والبصيرة عن بني الإنسان فيظل دائماً مغيّباً، أو لتظل أفكاره العقائدية على أقل تقدير تحت سيطرتهم..

فنجد أحبار اليهود الأوائل وقد حولوا مسار الشريعة اليهودية (التوراة) إلى مجموعة من الشروح المحلية من تأليفهم وتفسيرهم وهي الميشناه والجمارا التي هي تفاسير النص الأقدم من التوراة، وهي أيضاً المُركّب الأساسي للتلمود اليهودي الذي رسخ لفصل اليهود كجماعة مختارة متميزة عن باقي البشر في المعتقد الديني لديهم، وهذا التصنيف العنصري أظنه أيقونة الشقاء الأبدي الذي يعانيه اليهودي أينما وُجد.. ومنذ اعتماد التلمود كمصدر أساسي للشريعة اليهودية، حلت حالة مزمنة من البؤس والعناء بهؤلاء وتحولت الديانة اليهودية إلى نموذج شديد الرجعية على يد المتشددين منهم، والذين يروجون لأن الخروج على تعاليم هذا الكتاب الشاذة هو الكفر بعينه..

وفي المسيحية في العصور الوسطى، بزغ نجم رجال الكنيسة من خلال صراعهم مع الحكام على السلطتين الدنيوية والإلهية، وجاءت محاولاتهم للسيطرة على عقول العوام بإيهامهم أن التوبة لا تكون إلا من خلالهم، وأن الطريق لمفاتيح الجنة وصكوك الغفران لا يأتي إلا عن طريق الاستسلام العقلي التام لقداسة رجل الدين، وفي هذا قال فولتير 1694 : 1778 مقولته الشهيرة '' إن الذي يقول لك اعتقد ما اعتقده أنا وإلا لعنك الله.. لا يلبث أن يقول: اعتقد ما اعتقده أنا وإلا قتلتك''..!  هؤلاء الأدعياء تاجروا بجسد المسيح وتعاليمه، وجعلوا من التوبة سلعة تباع وتشترى، وأوهموا البسطاء بأن رغدهم المنشود لا يتأتى إلا بفعل ما جاء في تعاليم الإنجيل، لكنهم حَرّموا عليهم قراءته وفهمه واستيعابه إلا من خلال شخص الكاهن الوسيط المعتمد بينهم وبين السماء..

وفي الإسلام حدث ولا حرج.. احتدم الخلاف مؤخراً على مبادئ ومصادر الشريعة الإسلامية، التي هي كالجادة الواضحة وضوح الشمس في كتاب الله وسُنن رسوله، وخرج علينا العديد من تجار الدين حديثي العهد بالعمل الدعوي بفتاوى ومفاهيم مغلوطة ومفتعلة، اساءت مع الأسف كل الإساءة لصحيح الدين، ولا أظنها تصنف إلا كونها محاولات فاشلة لخلط ثوابت المعتقد الديني بمتغيرات الفكر السياسي، الأمر الذي جعل الدين الإسلامي عُرضه لتطاول دعاة الكفر، ولكل من تسول له نفسه توجيه النقد أو القدح في حق التعاليم الأصيلة للدين الإسلامي البعيدة تماماً عن منهج العنف والترهيب الذي ابتدعه هؤلاء، والتي تنادي في الأصل بإحكام العقل وبصدق الإيمان والمودة والتراحم والعطف والقبول والحكمة والأخذ بمبدأ الشورى.. أمثال هؤلاء أدخلوا الدين وتعاليمه في منعطف خطير أحدث انقساماً مجتمعياً، وأشعل نيران فتنة قد تلتهم من أوقدها في أول ما تلتهم..

الجهل هو مدخل الأدعياء للسيطرة على عقول البشر باسم الدين، وإلا بماذا نفسر ما يحدث من احتدام الصراعات والاقتتال الدموي على أساس طائفي وعنصري، وانتشار الفكر الرجعي المتشدد في ظل وجود ثلاث نسخ مكتملة من الديانات السماوية؟  ولماذا يبحث بعض المحدثين عن نسخ جديدة من الأديان، ويعزفون عن الانخراط في الحياة تحت سيطرة بعض من رجال دين تقليدين ربما أصاب فكرهم الإفلاس فجنحوا للرجعية والتشدد! حتماً لقد أساء هؤلاء صنعاً، وصنعوا بتشددهم وفكرهم المتطرف حاجزاً نفسياً بين البشر وبين مفاهيم صحيح الأديان، لدرجة جعلت من الفشل مصير حتمي للتعاليم الدينية بصفة عامة حين تدخل مع العلمنة في منافسة داخل ميادينها الخاصة.. الثقافة والعقل هم أيقونات الإصلاح البشري، وهم مزيج يحتاج لأنماط متعددة من الطواعية والمرونة الفكرية، ثم يأتي الدين ليرسخ القواعد الثابتة لهذا المزيج فيتحقق به اكتمال وتمام المنظومة البشرية، فالتدين لا ولن يتحقق بفكر رجعي أو متطرف يحلق في فضاء خاص بعيد عن الواقع، ويميز بين البشر ويصنفهم عرقياً.. وإلا متى وكيف ستتحقق فكرة العالمية للدين؟ ما لم يستطع الدعاة والقائمون على نشر المفاهيم الدينية تحقيق توازن حقيقي بين الوسطية والمعتقد الديني بتقديم الدين كمعيار مناسب للبشر جميعاً وللثقافات كافة، وليس كإعلان ترويجي لفكر أو ثقافة معينة، ربما سنظل جميعاً أسرى للصراعات والشقاء الأبدي، وتصبح إذاً نظرية صراع الحضارات حقيقة ثابتة يدعمها هذا ''الجهل المقدس''، والإفراط في الخوف الشديد من استخدام العقل..!  

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن موقع مصراوي.

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا

إعلان