إعلان

ياسر الزيات يكتب: ثلاث محاولات انتحار.. ومحاولة حب

ياسر الزيات

ياسر الزيات يكتب: ثلاث محاولات انتحار.. ومحاولة حب

01:56 م الجمعة 11 أبريل 2014

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - ياسر الزيات:

حاولت الانتحار ثلاث مرات في حياتي، وكل مرة كانت تنتهي بكوميديا سوداء. في المرة الأولى، كنت طالبا في السنة الجامعية الأولى، في سوهاج، في صعيد مصر، وكانت دوافعي كونية خالصة. في ذلك السن، يكون الكون غامضا بالنسبة لك، وتتكاثر الأسئلة بلا أجوبة، فتحتل الحيرة عقلك. أسئلة من نوع: أين الله؟ هل هو موجود حقا؟ كيف بدأت الحياة؟ وما المصير؟ ما سر الموت؟ وما أسبابه؟ لماذا أولد؟ ولماذا أموت؟

هناك من يجتهد في السعي إلى إجابات، فيتجه إلى المعرفة، لكن هناك من تخنقه الأسئلة، فيلجأ إلى الهرب منها. هربت إلى محاولة انتحار، والانتحار هو الطريق الأسهل.

أجهدتني الأسئلة حتى مرضت، فاصطحبني زملائي في المدينة الجامعية إلى المستشفى الجامعي المجاور. أعطاني الطبيب نوعين من الأقراص، كان أحدهما ''نوفالجين''، وكنت أعرفه. في المساء، تناولت الأقراص الصفراء التي لم أكن أعرفها، حوالي ثلاثين قرصا، وانتظرت الموت.

كل الذين نجحوا في الانتحار، فشلوا في إنقاذ أنفسهم في اللحظات الأخيرة، فالموت لا يصلح هدفا للحياة. أخبرت أصدقائي، فأعادوني إلى المستشفى سريعا. سألني الطبيب عما فعلت، فأعطيته قرصا أصفر كان لا يزال في جيبي. تفحصه، ثم نظر لي مبتسما ساخرا: ''هأو، ده فيتامين!''. وهكذا انقلبت أولى محاولات انتحاري إلى كوميديا، انتهت بأسوأ ما تنتهي به أي محاولة للانتحار، وهو غسيل المعدة، بتذويب أكياس من الملح في الماء، وشربها، وصولا إلى التقيّؤ. عقاب جيد، لمن يحاول الانتحار، فتذكر أن الحياة، على مرارتها أحيانا، أفضل كثيرا من غسيل المعدة.

المرة الثانية كانت أكثر عبثية. لم تكن لديّ دوافع واضحة لمحاولة الانتحار: ربما كان الملل، أو عدم وجود رؤية واضحة لمستقبلي، في بلد لا يمكنك أن تخطط فيه لساعة قادمة، أو ربما كان الدافع اكتئابا خفيا أخذ في التصاعد. الاكتئاب هو الشخص الآخر داخلك الذي يمنعك من الطيران، وهو عدوك الخفي الحقيقي، لأنه- ببساطة، وبشكل غير مبرر، وغير مفهوم- يريد أن يقتلك. وكلما حاولت الصعود جذبك إلى القاع. ويبدو أنني لم أكن جادا في هذه المحاولة: تناولت عددا قليلا من أقراص الأسبرين، وعدت إلى بيت صديقي الذي كان ملجأ لي من التشرد، وجلست أنتظر موتا لا يأتي. عندما اكتشفت في اليوم التالي أن شيئا لم يحدث، وأنني لم أصب حتى بمغص في المعدة، أو إسهال، أو أية أعراض، انفجرت في الضحك. تعلمت من هذه التجربة أن محاولات الانتحار يجب أخذها بجدية، حتى لو كانت بلا دوافع ظاهرة. لذلك، أصبحت مهمتي، بعد ذلك، أن أتعامل بجدية مع كلمة ''انتحار''، وأن أحاول إعطاء طاقة إيجابية لمن يفكر فيها، حتى لو أنه كان يمزح.

المرة الثالثة كانت كوميديا سوداء حقيقية، وكدت أموت فيها بالفعل. كنت خارجا من علاقة حب فاشلة. ربما وددت الانتحار فعلا، وربما كنت أحاول لفت نظر من أحب. لا أحد يستحق أن تحاول الانتحار من أجله، كائنا من كان. تناولت أقراصا كالعادة، وهذه يجعلني أتأكد أن الانسان يترك مساحة للحياة، حتى إذا كان جادا في رغبة الموت. تناولتها ونمت في أحد ملاجئي من التشرد، في شقة أحد أصدقائي، وكنت وحدي. عاد أصدقائي عند منتصف الليل، وهم عادة يتركونني نائما، لأن لديّ عملا في الصبح، لكنهم قرروا، في هذه الليلة تحديدا، أن يوقظوني، لأنهم أحضروا معهم شيئا رفضوا الاستمتاع به بدوني. عندما فتحت عينيّ وجدتني حيا، وأخبرتهم بما حدث. لم يكن لدينا نقود كالعادة، فقررنا أن نمشي إلى المستشفى، على بعد نحو خمسة كيلومترات من الحواري الضيقة المظلمة، وكنت أحاول أن أخفف عنهم بالضحك طوال الطريق.

عندما وصلنا إلى المستشفى، كان قد مر على تناولي الأقراص أكثر من ست ساعات، فبدأت آثارها في الظهور، لكن المستشفى رفض استقبالي، لأنه غير مختص بحالات الانتحار، وطلبوا منا الذهاب إلى مركز السموم، على بعد حوالي 10 كيلومترات.

برومانسية صبانا، تخيلنا أن المستشفى سينقلنا في سيارة إسعاف، لكنهم أخبرونا بأن رسوم سيارة الإسعاف 25 جنيها، وكان هذا المبلغ ثلث مرتبي تقريبا. لم يكن في جيبنا نحن الأربعة سوى خمسة قروش ضالة، ربما خبأها أحدنا لشراء سيجارتين.

رأيت الخوف في عيون أصدقائي يتحول فزعا، فابتسمت. أخبرتهم بأنني سأعالج نفسي بالقروش الخمسة، عندما نعود إلى البيت. في الطريق، وكانت الساعة الثانية صباحا، كانت مهمتنا هي البحث عمن نشتري منه كيسين من الملح في هذا الوقت المتأخر، حتى وجدنا بقالا يبدو أنه أحب الحياة، فتجاوز الثمانين، وكان ساهرا يستمع إلى أم كلثوم. وصلنا إلى البيت، وعاقبت نفسي بغسيل المعدة، ونمت، لأستيقظ بقرار أن هذه هي المحاولة الأخيرة، وأن الانتحار هو حيلة العاجزين غير القادرين على مواجهة اختبارات الحياة، وأن لا شيء، ولا أحد، يستحق أن تفقد حياتك من أجله، وقد كان. استيقظت محبا للحياة، وما زلت.

لا يستوقفني من المحاولة الأخيرة إلا تلك الفتاة التي اشتريت منها الأقراص. كانت تقف في كشك سجائر في شارع هدي شعراوي، في وسط القاهرة. جميلة جدا، ولم أرها من قبل. سألتها: ''عندك أسبرين؟''، فسألتني: ''عايز بكام؟''. أجبت: ''إنت عندك بكام؟''، قالت: ''دول بحوالي اتنين جنيه ونص''، قلت: ''هاتيهم''، لكنها فاجأتني بالرفض. قالت: ''شكلك عايز تنتحر. ليه؟ انت شاب صغير، ولسة الحياة قدامك، والمستقبل كبير. أنا هاديلك الأقراص، بس اوعى تنتحر بيها''. المدهش أنني لم أر تلك الفتاة في هذا الكشك من قبل، وأنني لم أرها بعد ذلك اليوم. ربما كانت حلما.

تقابل، في حياتك آلاف الأشخاص الذين يدفعونك في اتجاه الموت، لكنك تقابل شخصا واحدا يدفعك إلى الحياة. عندما تجده، حاول أن تحبه، وحاول أن تحب الحياة معه.

هذا المحتوى من راديو هولندا

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا

إعلان

إعلان

إعلان