إعلان

مشاهد من قصة ميلاد المسيح.. كيف مرت ثلاثة أعياد على مسيحيي غزة؟

كتب : مارينا ميلاد

05:54 م 17/12/2025 تعديل في 18/12/2025

تصميم: ميلاد المسيح - إحياء ذكرى ضحايا قصف كنيسة ف

تابعنا على

نحو 100 كم تفصل بين غزة وبيت لحم، الواقعة جنوب القدس، وبها كنيسة المهد المبنية قبل 1500 عام فوق المغارة التي ولد فيها المسيح. وفي ساحة الكنيسة، أُضيئت شجرة عيد الميلاد هذه الأيام بعد أن تُركت الساحة مظلمة وهادئة طوال عامين بسبب الحرب على غزة.

أمامها، وقف ماهر قنواتي، رئيس بلدية بيت لحم، وصاحب فكرة إحياء أول احتفال لموسم عيد الميلاد في المدينة عام 2011، بشرائه أكبر شجرة ميلاد لهذا الغرض.. وقال هذه المرة: "من بيت لحم إلى المدن الفلسطينية الأخرى بما فيها غزة، نبعث رسالة إلى العالم أننا نريد السلام والحياة".

وقبل عيدين، كانت الرسالة مغايرة وحزينة، حيث قُرعت الأجراس وأُقيمت الصلوات دون أي احتفال. وظهر مجسم الطفل يسوع بين قطع أسمنتية ترمز للدمار وركام الحرب ولُفّ بالكوفية الفلسطينية.. وقتها قال منذر إسحق (القس في الكنيسة اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة) في حديث له: "في ظل الحرب، نعتقد لو ولد السيد المسيح اليوم سيولد تحت الركام في غزة تضامناً مع هؤلاء الأطفال".

وربما تتشابه فصول تلك القصة فعلاً مع قصة ميلاد المسيح، حيث القتل ثم النزوح ثم العودة والبقاء بحثاً عن السلام.

---------------------------------

الميلاد وقتل الأطفال

قبل أكثر من ألفي عام في المكان نفسه، قاد نجم متوهج، ضخم، يتحرك بخطى محددة، أفراداً من المجوس (كهنة حكماء من المشرق) إلى المغارة المولود بها المسيح. كانوا مؤمنين بأن هذا النجم يعني أن نبوءة "ملك اليهود" المنتظر قد تحققت، وهو دليلهم، فاتبعوه حتى وصلوا إلى هنا، إلى أورشليم (الاسم التاريخي لمدينة القدس).

في هذا الوقت كان حكم الملك هيرودس في مرحلة توتر سياسي؛ كان رجلاً متوجساً وعجوزاً، يحكم قبضته على السلطة بالقوة، وعندما وصل المجوس بثيابهم الغريبة وأسئلتهم الصريحة عن "ملك اليهود المولود حديثاً"، اهتز القصر كله، فاستدعى "هيرودس" رجاله، مطالباً بمعرفة المكان الذي يُحكى عنه، وهو بيت لحم.

ثم نفذ خطته، واستقبل المجوس بودٍ زائف، طالباً منهم العودة وإخباره بمكان الطفل كي يذهب هو أيضاً ويسجد له. ولكن بعدما انصرفوا ولم يعودوا، أطلق العنان لغضبه وأصدر مرسومه: "اقتُلوا جميع الأطفال الذكور في بيت لحم وكل القرى المجاورة ممن هم دون سن سنتين".

وبشكل آخر، تكرر ذلك في غزة بعد يوم السابع من أكتوبر عام 2023، فبين أكثر من 70 ألف شخص قُتلوا منذ بداية الحرب، كان هناك 1000 طفل رضيع (وفقاً لوزارة الصحة في غزة).

بين هؤلاء، فقد رامز الصوري، أحد سكان مدينة غزة، أطفاله الثلاثة "سهيل ومجد وجولي" ضمن 13 شخصاً من عائلته خلال قصف كنيسة القديس برفيريوس في التاسع عشر من أكتوبر عام 2023.

واليوم، يقف "رامز" في المكان نفسه، ليقدم رثاءً إلى ابنته أمام الجميع: "يا جولي، يا طفلتي، يا رؤاي الحلم في نسمي.. عامان مَرّا وقلبي ما استراح وجرحي لا ينام على وسادة الصبر، دمعي في وسادتي سيلاً.. فما زالت دموعي على خدي تنازلني".

تزوغ عيناه بين أنحاء المكان، ويعتبر ثالث أقدم كنيسة في العالم بعد كنيستي "المهد" في بيت لحم و"القيامة" في القدس. ويتذكر يوم "اختلطت دموعهم بدماء أبنائهم على عتبة هذه الكنيسة"، حسب وصفه، إثر الغارة التي استهدفتهم وراح ضحيتها نحو 17 شخصاً اتخذوا المكان ملجأً لهم.

يبدو "رامز" متماسكاً إلى حد كبير، لكنه لا يخفي أبداً مشاعره: "كيف لا نحزن، وقد غابت عن مقاعد الكنيسة وجوه هؤلاء الأطفال الصغيرة!.. هؤلاء ليسوا أرقاماً في تقارير!".

وبالنسبة له، لم يختلف هذا العيد عن سابقيه، "فكل شئ حاضرَا في ذاكرته وداخله وكأن الوقت لم يمر"، إنما ما اختلف هو وقف حرب غزة بعد الاتفاق الذي جرى في شرم الشيخ، أكتوبر الماضي، حيث وقع الوسطاء (مصر وقطر وتركيا مع الولايات المتحدة) وثيقة وقف إطلاق النار.

---------------------------------

الهروب والنزوح

وفي منتصف ليلة مظلمة، حملت العائلة المقدسة مقتنياتها واضطرت إلى الفرار حين ظهر الملاك ليوسف النجار في حلمه وأمره: "قم، خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر". وبخطوات ثقيلة وحذرة، ساروا معًا نحو مصير مجهول. بينما بقي "رامز" مكانه وأصر على رفضه ترك مدينة غزة والنزوح رغم أوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش الإسرائيلي، خلال أغسطس الماضي، لسكان المدينة. وشاركه في ذلك الكهنة والراهبات الكاثوليك والأرثوذكس. وأعلنت بطريركية الروم الأرثوذكس والبطريركية اللاتينية أن "مغادرة المدينة والفرار إلى الجنوب بمثابة إعلان حُكم بالإعدام. سنستمر في رعاية جميع من سيبقون".

في المقابل، نزح حوالي 110 آلاف فلسطيني من قطاع غزة (حتى منتصف عام 2024)، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، التي تشير إلى أن جميع سكان غزة تقريباً (حوالي 1.9 مليون شخص) نزحوا داخلياً مرات عديدة، "لعدم وجود مأوى آمن والنقص الحاد في الطعام والمياه والخدمات الأساسية".

وهكذا قضى طوني المصري وزوجته "أمل" عيدهما أمام خيمة في منطقة المواصي غرب خان يونس. فالرجل البالغ من العمر 78 عاماً نزح لأول مرة خلال النكبة عام 1948 من مدينته "حيفا" إلى مخيمات اللاجئين في لبنان (مخيم ضبية)، قبل أن يستقر في غزة. ما جعله يقول: "هذه ليست المرة الأولى التي أفقد فيها منزلي وأحبائي".

وفي أيام مماثلة لهذه قبل الحرب، كان "طوني" يزين شجرته، ويسافر إلى بيت لحم لزيارة أولاده وأحفاده، وكانت مظاهر الاحتفال جلية بالقطاع. ولكن الآن، تبدلت طقوسهم وغاب كل شيء. يتكئ "طوني" على عكازه ويصف حاله بكلمات متقطعة: "لا يوجد أحد هنا. سأجلس أنا وزوجتي وحدنا لنحتفل.. هذا أصعب شيء بالنسبة لي".

---------------------------------

وقف الحرب والعودة

ظلت العائلة المقدسة أيضاً وحدها، تتنقل من مكان لآخر، في رحلة نزوح استمرت نحو 3 سنوات (حسب المؤرخين وتقديرات كنسية). لم يقطعها إلا نداء إلهي آخر جاء ليوسف بالعودة من مصر: "مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي". فسلكوا بخطوات حذرة الاتجاه المعاكس لكنهم لم يأمنوا الذهاب إلى بيت لحم بل ساروا نحو الجليل، وتحديداً "الناصرة".

وفوق ظهور دوابهم أيضًا، عاد نازحون إلى غزة بعد اتفاق وقف الحرب، وعاد من رحلوا نحو الجنوب إلى الشمال مرة أخرى، ليكتشفوا واقعاً مأساوياً ومنازل مدمرة بالكامل ويجبر بعضهم على النزوح مرة ثانية إلى مكان آخر بالقطاع.

حتى حلّت عليهم هذه الأيام سيول أغرقت خيمهم، وتسللت مياه الأمطار إلى الفراش والأغطية. وانهارت المنازل المتصدعة بسبب المنخفض الجوي، الذي راح ضحيته نحو 10 أشخاص، غير ثلاثة أطفال ماتوا من شدة البرد.

وعلى الرغم من أن وقف إطلاق النار خفف من القيود نسبيًا على دخول السلع، إلا أن الإمدادات الأساسية لا تزال غير كافية خاصة في فصل الشتاء، بحسب الأمم المتحدة، في حين أن “منظمة الصحة العالمية لاتزال تواجه تحديات كبيرة في توفير اللوازم المختبرية والطبية للكشف عن العدوى في ظل انتشار الأمراض"، حسبما ذكرت.

وسط كل ذلك، يحاول المسؤولون بكنيسة القديس بورفيريوس بمدينة غزة، حيث يلجأ عشرات العائلات، أن يخلقوا واقعاً آخر مفرحاً؛ فاجتمعت الأسر وأطفالها لصنع شجرة الميلاد واستخدام ما يتوفر لديهم من الكرتون والأوراق لتزيين المكان.

فبالنسبة لنحو 700 فرد من المسيحيين الباقين في غزة، لا توجد أشجار لتزيين منازلهم إن كانت موجودة. ومنهم "مايكل" الذي يقول: "نحاول أن نسعد الأطفال، وفي الحقيقة لا فرحة حقيقية لنا منذ الحرب، لا نزال نتألم على من راح وعلى ما تم تدميره.. احتفالنا بالعيد يعني الصلاة فقط، نصلي من أجل السلام"، وهي الصلاة نفسها التي حملها المسيح ضمن رسالته طوال نحو 33 عاماً قضاها على أرض فلسطين، يبشر ويعلم بعد العودة.

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

إعلان

إعلان