إعلان

"مباراتي الحالية مع كورونا".. حكاية مدرب كرة قدم ضمن طاقم حراسة مستشفى العزل في إسنا

11:00 ص الجمعة 24 أبريل 2020

كابتن إسماعيل خليفة مدرب كرة يعمل ضمن أفراد أمن م

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-إشراق أحمد:
حين خُير العاملون في مستشفى إسنا التخصصي الجديد بعد تحوله إلى العزل الصحي ما بين البقاء أو الرحيل طواعيه؛ اختار إسماعيل خليفة أن يكون ضمن الطاقم المتواجد لمجابهة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، فإذا كان مدرب كرة القدم في مركز شباب السلام غادر الملاعب مضطرًا لتوقف النشاط الرياضي، اليوم بعمله ضمن أفراد أمن المستشفى، يخلق ساحة له من نوع آخر كما يصف "مباراتي دلوقت مع كورونا"، فمع كل مساعدة للمرابطين في المكان ولحظة اطمئنان يمنحها لأهالي أحد المصابين، يشعر إسماعيل بسعادة كأنما يحرز هدفًا في شِباك الخصم.

لم يرَ إسماعيل نفسه إلا داخل الملاعب، عمل في العديد من المهن لتوفير نفقات المعيشة، آخرها فرد أمن بمستشفى إسنا -جنوب الأقصر، لكنه طالما يوقن بأن "الكورة شغلانتي الأساسية". تحمل الرجل الثلاثيني تأجيل حلمه استجابة لإرادة والده، إلا أنه تفرغ لما يحب بعد حصوله على بكالوريوس خدمة اجتماعية والاطمئنان على زواج شقيقاته الثلاث. وضع كرة القدم في مقدمة أولوياته واعتبر وقتها مقدسًا، فما كانت تحل الظهيرة إلا ويذهب لمركز الشباب يدرب فرقته من الناشئين، يعايش معهم حتى مغيب الشمس مستقبله الذي أراد. كل ذلك قرر تنحيته جانبًا لوقت غير معلوم بعد التزامه بالعمل داخل المستشفى.

1

في منتصف مارس المنصرف، تأخر إسماعيل عن ميعاد ورديته بنحو ساعة، ذهب بابنه إلى الطبيب، ثم توجه لعمله، وما إن وصل المستشفى حتى وجد زملاء له يغادرون، يخبرونه أنه بدأ استقبال حالات كورونا "واللي هيقعد مش هيمشي". توجه ابن مدينة إسنا إلى مديره ليعرف ماذا يجري، فأجابه الأخير "اللي يقرر يقعد هيتحجز معانا 14 يوم ويطلع بعد ما التأكد أنه سليم وياخد إجازة 14 يوم ولو عايز بعدها يرجع. الموضوع اختياري مفيش حد مجبر على حاجة".

لم يرغب "كابتن إسماعيل" -كما يناديه كل من معارفه- إلا أن يتأكد من أمر واحد "وجودنا هيساعد الناس ولا مش هنعمل حاجة"، ولما جاءه الرد بالإيجاب، سرعان ما دون اسمه وأعطى المشرف هويته، واستأذنه بالذهاب إلى المنزل لجلب احتياجاته. كان مدرب الكرة ليلتها ضمن 4 أفراد من إجمالي 25 شخصًا ضمن طاقم الحراسة أخذوا القرار بالبقاء.

ما كان مشوار إسماعيل طويلاً كفرد أمن. التحق بالعمل في المستشفى قبل ثلاثة أشهر بعدما لجأ إلى شركة حرسات خاصة لإيجاد وظيفة إضافية بالمساء. وجد مدرب الكرة أن التزاماته زادت بقدوم ابنه الثاني الذي أكمل عامه الأول، فتحمل الجمع بين مهنتين، صباحًا "عامل يومية" وبالمساء حارسًا على أبواب المشفى. استمات إسماعيل كي لا يغادر ما يهوى وعكف عليه منذ أربعة أعوام بعد فترات من المذاكرة والحصول على 4 شهادات خبرة "دربت نادي السلام في إسنا وكنت مدرب ناشئين نادي نهضة العامرية في إسكندرية لسنتين بعدها رجعت الأقصر"، وعُرض عليه أن يكون المدير الفني للفريق الأول لأحد الأندية لكنه رفض كما يقول "حسيت أني محتاج أتعلم أكتر قبل الخطوة دي".

2

3

اتخذ إسماعيل قرار البقاء في العزل، لكنه ليس هينًا على أسرته. "كان فيلم.. قعدت ساعتين أقنع أبويا ومراتي فتحت في البكا لغاية ما خرجت من البيت" يستعيد مدرب الكرة كم خشي الجميع العدوى، استعطفوه أن يظل بالمنزل لأجل أبنائه الصغار، وعاتبه بعض الأصدقاء "ليه تعمل في نفسك كده؟"، إلا أن الرجل الثلاثيني كان له منطق "لو ما استقبلتش حالات ابن البلد هيجيبوا ناس من بره إسنا وتبقى عيبة في حقنا.. ولو مقعدتش مكاني اللي بره المستشفى مش هيبقى قاعد مطمن وكويس"، وهكذا يلازمه معتقده إلى الآن.

منذ الساعات الأولى لإسماعيل داخل أسوار المستشفى لمس التغيير؛ المستشفى خالي إلا من أطباء قادمون من أماكن عدة خارج الأقصر، منهم يلتقي بزملائه لأول مرة، فيما غاب عمال وطاقم المطبخ في البداية، فالكثير تراجع خوفًا، قبل أن يعودون تباعًا لأماكنهم مساندة لزملائهم. وجد مدرب الكرة نفسه مع رفاقه يستقبلون الحالات مع الأطباء، ويتولون بوجودهم على البوابات وأد الشائعات "انتشر وقتها إن المسؤولين في المستشفى والدكاترة هربت".

4

كان اليوم الأول داخل أسوار العزل الأكثر صعوبة "كنا بنخدم نفسنا بنفسنا. اشتغلنا عمال وأمن حتى الدكاترة كانت بتشتغل زيهم زينا"، واجه جميع المتواجدين باكورة التعامل مع الظرف الجديد في أبسط الأشياء. يتذكر إسماعيل أن أول وجبة حصلوا عليها بعد 24 ساعة من العمل.

رغم ما بدى في الأمر من مشقة، حتى أن هناك أطباء لم يراهم لثلاثة أيام متواصلة، لكن إسماعيل وجد ما يهون "المصاب جمعنا. بقينا كأننا عيلة واحدة. مفيش فرق بين دكتور وتمريض وعامل". حالة لم يشهدها قبلاً من التقارب؛ تأتيهم مديرة المستشفى إلهام محمد، توضح لهم قواعد التعامل وكيفية حماية أنفسهم، ويمنحهم مديرهم حرية التنسيق فيما بينهم، يرفع عنهم الضغط بإخبارهم "المهم نغطي شغلنا ومانفقدش حد"، بينما اتفق أفراد الأمن أن يُذَكِر كل منهما الآخر بإجراءات الوقاية من التعقيم الدوري. صار الجميع داخل أسوار العزل "سواسية" كما يصف إسماعيل، تعاهدوا أن يحافظوا على بعضهم البعض كي لا ينفرط عقدهم.

5

تبدلت حياة إسماعيل وشعوره بفتح الأبواب؛ من الثامنة مساء حتى صباح اليوم التالي يرابط داخل المستشفى، يدب الحزن في نفسه كلما أغلق الباب بعد دخول سيارة الإسعاف قادمة بحالة، خاصة لو كانت لمسن "بقول يارب سلم.. محتاجين معجزة عشان يخرج على رجليه"، ويزيد تألمه برحيل أحدهم بعدما تمكن الفيروس منه "لغاية دلوقت شهدت وفاة حوالي 9"، فيما ينشرح وجهه مع فتح الأبواب لدفعة جديدة من المتعافين.
لا ينسى مدرب الكرة السابعة صباح السبت 18 إبريل الجاري. حينها فتح دفتي المستشفى لخروج رجل مسن في السبعين من عمره تعافي لتوه من "كورونا"، عرض عليه ابن مدينة إسنا أن يسنده كي يمضي بطريقه، فمازحه المتعافي "ده أنا اللي اسندك دلوقتي. ربنا يعينكم". مثل هذه الكلمات والمواقف على بساطتها تمنح مدرب الكرة سعادة تعوضه عن اشتياقه لأبنائه وأسرته وحياته السابقة.

6

من مكانه تأكد لإسماعيل أن بإمكانه المساعدة؛ أصبح مدرب الكرة وسيلة بعض الأهالي للاطمئنان على ذويهم، خاصة ممن لا يسكنون محافظة الأقصر، يذكر ذلك الشاب الذي افتقد والده المريض وأخبره "نفسي اسمع صوته وأطمن عليه"، فذهب حارس المستشفى إلى الطبيب الذي استجاب، وتحدث الابن مع أبيه عبر هاتف إسماعيل، وكذلك تغيرت طبيعة المكالمات التي يستقبلها مدرب الكرة.

عبر البوابة أيضًا عرف إسماعيل وقع انتشار الوباء. يقع المستشفى في قلب المدينة، يمر عليه العديد. كثيرًا ما لقي مدرب الكرة تعامل لم يفهمه "ناس عارفها كانت بتسلم بقت تشوفني تعمل مش شايفاني حتى لو ناديت عليها". أدرك إسماعيل أن من خارج أسوار العزل يظنون "أن كل اللي في المستشفى مرضى أو مصابين محتملين"، وتأكد من هذا في الأسبوع الأول، بعدما تكرر سماع أصدقائه يقولون له "ربنا يرفع عنكم البلاء"، فيحدثهم "أحنا مش مصابين أحنا بنشتغل".

صُدم إسماعيل مما سمعه ورآه خارج العزل، وقرر عمل مقاطع مصورة من داخل المستشفى، ينقل الأجواء ونصائح الأطباء لتوعية محيطه، ومن جانب آخر يرد على الشائعات التي وصلت لحد القول إن العاملين ارتضوا البقاء فقط لأجل المال "اتقال أننا بناخد ألف جنيه في اليوم". ابتسم مدرب الكرة كثيرًا عند سماع ذلك، يرد في نفسه "ده مرتبي في الشهر". قرر مدرب الكرة مواصلة العمل قبل الإعلان عن تخصيص مكافئات لكل طواقم العزل في المستشفيات. لم يغير التصريح من موقفه شيئًا. انهي مدته الأولى بعدما جاءت نتائج التحاليل له سلبية، وحينما خُير للمرة الثانية بالقدوم أو الرحيل، عاود الذهاب إلى المستشفى.

ما عايشه إسماعيل بعد انتهاء 14 يومًا الأولى عزز موقفه بمواصلة العمل؛ تجنبه الكثير خوفًا من العدوى. استشاط الرجل الثلاثيني غضبًا "ده أنا اتعمل لي تحليل ومعايا شهادة بتقول أني سليم 100% يعني المفروض أنا اللي أخاف".

واصل "كابتن إسماعيل" الحديث عبر منصته الإلكترونية بعد عوته للمنزل، استمر في توعية الناس ونصحهم بتقليل التجمعات التي وجد أن الظرف لم يغير منها كثيرًا. يخشي مدرب الكرة كل يوم أن تقترب دائرة المرض أكثر ممن يعرف، خاصة بعدما تجاوز عدد الإصابات 3 آلاف، فخلال فترتي عمله شهد حالتين لأشقاء أصدقاء له، مازال أحدهما داخل المستشفى في طريقه للتعافي.



طيلة إقامة إسماعيل داخل الحجر، ابتعد عن كرة القدم لكنه لم يغادرها، وجد البديل، استأذن الأطباء وأحضر كرة قدم، وفي أوقات الراحة يقيم مع زملائه مباراة صغيرة "وأوقات الدكاترة بيلعبوا معانا"، فيما يتابع مواعيد دورة تدريبة إلكترونية يقيمها إتحاد الكرة عبر هاتفه، كما حول الاستقبال لفسحة يتنفسون فيها "استأذنت أجيب شرايط ماتشات قديمة وأفلام نتفرج عليها"، ولم ينس نصيب المصابين من التخفيف عنهم "لما نعرف أن في عيد ميلاد حد بنشغل أغاني في السماعات نحتفل بيه".
وكما يسعى إسماعيل لتخفيف الأجواء، يأتيه بين الحين والآخر ما يسعده؛ ذات يوم استقبل مدرب الكرة رسالة ربتت على نفسه؛ تواصل معه لاعبون صغار رافقهم في التدريب بالإسكندرية قبل عامين، كان على اتصال دائم مع أحدهم لكنه وجد 15 لاعبًا آخرين، مضوا يحتفون به، يمازحونه "يلا يا كابتن معانا مباراة عايزين نلعبها ولو أننا عارفين أنك مش فاضي .. نفسنا نلعب ماتش زيك ضد الكورونا".

7
الجمعة 24 إبريل الجاري، يكمل إسماعيل 14 يومًا أخرى داخل العزل، ينتظر بعدها نتيجة تحليل المسح الثاني له، يتمنى الرجوع لمنزله كما المرة الأولى ويقضى مطلع شهر رمضان رفقة أسرته، يعلم في نفسه أن له عودة مرة ثالثة لمكان ارتكازه في ساحة العزل، تستشعر زوجته بما يبطن فتزيد عتابها له خوفًا عليه، لكن ما رآه "كابتن إسماعيل" يزيده رغبة في ألا يبرح مكانه وإيمانًا بأن مقامه فيما أقامه وأن "ربنا مش هيكرمني بمحبة الناس من غير ما اشتغل".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان