إعلان

ما أشبه اليوم بالبارحة.. حكاية قرية مع الحجر الصحي قبل قرن

03:33 م الأربعاء 01 أبريل 2020

حكاية قرية مع الحجر الصحي قبل قرن

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت - مها صلاح الدين:

قبل ما يقرب من قرن من الزمن، غزا التيفويد قرى مركز السنبلاوين بالدقهلية، وبدأ في حصد الأرواح، وهاجم عزبة "الحصوة" الملاصقة لقرية "المقاطعة" بشدة.. ولم تمضِ أيام قليلة، إلا والتيفويد قد اجتاح القرية نفسها.. وهدد أهلها.

أمر طبيب المركز ومفتش الصحة وقتها، بفرض "كردون" على أطراف القرية، وإقامة 15 خيمة في الخلاء، نقل إليها 3 أشخاص بدت عليهم أعراض المرض.

0

وقتها.. وتحديدًا في 14 أبريل 1930 حرص مأذون القرية، الشيخ "موسى المنسي"، على تدوين ما يحدث في مفكرته الخاصة، وكان كالمثل القائل: "ما أشبه الليلة بالبارحة".

وبعد يومين، دخل التيفويد منزل عائلة مأذون القرية نفسه، وأصيبت شقيقة والدته "فاطمة"، وظلت تصارع المرض لـ10 أيام، توفيت بعدها عن عمر يناهز الـ45 عامًا.

لم يكن هذا هو كل شيء، ففي 15 أبريل، اجتاح الجراد سماء القرية، والتهم الأخضر واليابس، وبدأ الأهالي في مطاردته لحماية زراعتهم.

1

وبعد وفاة "فاطمة" بأيام، قرر طبيب القرية عزل جميع أفراد العائلة، ووضعهم داخل "كردون" الحجر الصحي، وحقنهم بالمصل الوقائي، لكن أعراض المرض هاجمتهم داخل خيام العزل، فيقول الجد: "أصبحنا وغالب من تم حقنهم أمس نشكو أَمرَّ الشكوى من شدة ما انتابنا من الألم، كأننا مصابون بالحمى ولم نأكل ولم نشتغل".

استمر الحال هكذا، حتى قررت عمومية الصحة تطهير القرية، وأمرت مديرية الصحة العمومية في 26 أبريل من العام نفسه، بتبخير مربع منازل كافة المشتبه فيهم بالقرية، وحضر معهم الطبيب، ومعه المصل الوقائي، وطعَّم الجميع.

وقبل أن ينقضي شهر أبريل، انزاحت الغمة، وزار الفرح أخيرًا أهالي القرية، ذلك حينما حضر مفتش الصحة، وفحص جميع المرضى المحتجزين بـ"كردون" الحجر الصحي، ووجد أن جميعهم قد تم شفاؤهم، وأمر بخروجهم وعودتهم إلى منازلهم، وأعمالهم.

لم يكتفِ الأطباء وقتها بذلك، بل استكملوا سلسلة الإجراءات الوقائية بالقرى، وفي السادس من مايو، حضر طبيب قسم الأوبئة وطعَّم أهالي القرية، بالمصل الوقائي من وبائي الكوليرا والتيفود.

كان الشيخ "موسى المنسي" جد وزير التربية والتعليم الأسبق أحمد جمال الدين موسى، الذي دون تلك السطور في المفكرة التي تركها إرثًا للعائلة.

يقول جمال الدين، إن الجد حرص على تدوين مذكراته منذ عام 1926، ربما يعود ذلك لدراسته في الأزهر الشريف، وعلاقته بكبار المثقفين ورجال العلم والدين، الذين كانوا مرتبطين معه بمراسلات ولقاءات.

ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي تحدث فيها الجد عن الوباء في مذكراته، فبعد أكثر من 15 عامًا، اجتاح مصر وباء أكثر خطورة.. وباء الكوليرا، فوثق الجد ظهوره ومظاهر مكافحته.

في نهاية سبتمبر عام 1947، عزلت الحكومة محافظات الشرقية والقليوبية والدقهلية عن بقية محافظات الجمهورية، عن طريق وقف حركة القطارات منها وإليها، بعد انتشار وباء الكوليرا بين أرجائها.

وفي بداية الشهر التالي، توفي أول شخص بالمرض في قرية المقاطعة، شاب في الخامسة والعشرين من عمره يدعى إبراهيم محمد إبراهيم سمك، بعد أن انتابته نوبة عنيفة من القيء والإسهال، وشخصَّ الأطباء حالته بالاشتباه بالكوليرا.

وقتها، تهافت أهالي مركز السنبلاوين على شراء السلع، تكدسوا في زحام شديد في ساعات النهار، بسبب انقطاع حركة المواصلات عن القرية، وكان من بينهم الشيخ موسى، الذي خرج لتلبية احتياجاته.

وظلت الأوضاع تزداد سوءًا كل يوم، وتظهر أعراض المرض على واحد تلو الآخر من أهالي قرية المقاطعة.

2

وبدأت أعداد الوفيات تزداد كل يوم عن اليوم الذي سبقه، حتى حضرت لجان من الصحة، وبدأت بحقن أهالي القرية بالمصل الوقائي في منتصف شهر أكتوبر، وقبل نهاية الشهر.. كانت انزاحت تلك الغمة عن القرية وأهلها، وأعيدت حركة القطارات والمواصلات من وإلى القرية من جديد، وعاد ساعي البريد يطرق أبواب البيوت بعد أن كان هو الآخر هجرها شهرًا.

3

لم يكن يدري الوزير الأسبق أن تلك المفكرة التي حمله بحنين إلى عبق الماضي، يعتبرها رجال التاريخ مرجعًا يوثق ما حدث في القرية خلال تلك الفترة، فيقول أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، الدكتور محمد عفيفي: "تلك المفكرة مصدر تاريخي نادر وقيم للتاريخ الاجتماعي".

ثم يردف: "ما كتب للذات هو الأقرب إلى المصداقية، والمذكرات الشخصية من أهم المصادر، وتلك المفكرة تاريخ حي للناس والمجتمع في الريف المصري.. الذي نادرًا ما يتم توثيقه".

فيديو قد يعجبك: