إعلان

بالصور- وسط حفريات من ملايين السنين.. أبواب مركز "المنصورة" مفتوحة للجميع

04:19 م الأربعاء 20 نوفمبر 2019

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتابة وتصوير- إشراق أحمد:

كأنها نزهة علمية؛ تعرف الأقدام خطاها في سلاسة نحو مركز الحفريات الفقارية في كلية علوم المنصورة. تستجيب ريم أحمد لدعوة صديقتها، فتنتهز الوقت بين المحاضرات، وتقصد المكان ليصبح يومها الأول في معرفة الفرق بين الرواسب والحفريات، فيما تجلس إسراء أبو العزم في مقعدها الذي أبت أن تغادره رغم إنهائها 60 ساعة تدريب فيه، بينما كان الباحث العلمي عبد الله جوهر يتم جولته مع زائرين ليسوا من الطلاب، لكنهم قدموا للتعرف على ما يضمه المركز الوحيد لدراسة الحفريات في مصر والشرق الأوسط من بقايا كائنات تعود لملايين السنين.

خلية نحل ترافق مركز حفريات المنصورة. تغيرت هيئة المكان في مايو 2019؛ الإنجاز العلمي، العالمي، الذي حققه فريق الباحثين باكتشاف أحافير "منصوراصورس" أول ديناصور مصري، كان سببًا في "مكافأة" الجامعة بتطوير المركز كما تقول الدكتورة شروق الأشقر، مسؤولة التدريب بالمركز، مما أتاح استقبال المزيد من الطلبة والزائرين للمكان معتبرين إياه "متحف مفتوح".

1

خلف طاولة، تصوب الشمس أشعتها من النوافذ على الجالسين، أمسكت ريم، طالبة الفرقة الثالثة، ملقط حديدي وأمعنت النظر في العدسة المقربة، بينما تحرك يديها لتباعد بين ما تبدو حصوات صغيرة في الإناء الزجاجي الموضوع تحت المجهر، تتوقف لحظة، "دي عضمة" تحدث نفسها، وتضعها في إناء مجاور، لتعاود الكرة في فصل الحفريات عن الرواسب حتى حان موعد المغادرة للحاق بمحاضرتها، وقتها انتابها شعور طيب في يومها الأول بالمركز "حبيبت المعمل وحاسة أني بقيت أحب الكلية أكتر".

2

في يناير 2018 أُعلن عن الكشف العلمي لفريق مركز الحفريات الفقارية بالعثور على ديناصور "منصوراصورس" أول ديناصور في مصر وأفريقيا يوثق لآخر 30 مليون عامًا من العصر الطباشيري، ونُشرت تفاصيل الكشف في مجلة "نيتشر Nature" أعلى دورية علمية متخصصة.

زادت شهرة مركز الحفريات، أصبح يشار إليه بالبنان، فتشجع الطلاب على التوافد، مما دفع الباحثون لتخصيص أوقات لهم "لما بدأت الطلبة تيجي ويقعدوا حددنا لهم ساعات تدريب 60 ساعة وياخدوا عليها شهادة من المركز" تقول دكتورة شروق.

3

كانت متابعة أخبار الباحثين، خاصة رؤية صورة لإحدى الباحثات في المركز –سناء السيد- على غلاف مجلة علمية، دافعًا لهبة حويزي كي تقطع قرابة ساعتين ونصف من مدينتها طنطا إلى جامعة المنصورة، من أجل التواجد بين تلك الصحبة.

التحقت خريجة قسم الجيولوجيا في جامعة طنطا بمركز المنصورة كمتدربة "جيت قبل سنة ونص كنت زي الطلاب دول" مبتسمة تقول طالبة الماجستير بينما تنظر للمنهمكين أمام المجاهر، فقد باتت حويزي ضمن فريق عمل المركز تدرس وتشرح للوافدين.

4

"هو ينفع اللي مش في علوم يدخل المركز؟" بادر البعض بسؤال الباحثين في المركز، ومع الإجابة بالقبول، تفاجئوا بتوافد العديد من داخل وخارج المنصورة لتلقي التدريب وطرح الاستفسارات، حتى أن هناك من أعلن عن رغبته في التحويل للدراسة بكلية العلوم كما ذكرت مسؤول التدريب بالمكان.

داخل المركز تُرفع القيود عن الأسئلة، ويتساوى الجميع. كبارًا وصغارًا لا شرط لتواجدهم إلا مراعاة محاضراتهم والامتحانات، فلا يطيلوا البقاء على حسابها، وكذلك التحلي بآداب المركز وأولها "الشغف".

5

كأنما تدب الحياة في الحفريات بقدوم الوافدين. بعد انتهاء المحاضرة، تعود مجموعة من طلاب الفرقة الأولى، ينقسمون بتلقائية إلى جزأين، يجلس البعض أمام المجاهر للفصل بين الرواسب والعظام الصغيرة، ويتخذ أخرون مكانهم على طاولة مجاورة، كانت خالية قبل أن يهموا بمساعدة الباحث عبد الله جوهر في ملأها بقطع حفريات كبيرة.

هنا، كلُ يعرف ماذا يصنع، ورغم العدد إلا أن الهدوء لا يغادر المكان، يُخرج الطلاب الحفريات من الخزانات، يتابعهم الدكتور عبد الله، يمسك أحدهم قطعة، فيصيح الأول بابتسامة "لا حاسب براحة دي لو جرى لها حاجة أروح فيها"، وهنا يبدأ درس من الباحث "الحفرجي" كما هو ملقب، يخبر فيه الطلاب أن يعتبروا تلك القطع "كائن حي" يمسكونه بخفة وحذر كي لا يتفتت بين أيديهم، قبل أن يضعونها على وسائد رملية صغيرة رصت أمام كل منهم.

6

بفرشاة وإبرة يواصل محمد أمين بدأب إزاحة الأتربة عن حفرية بين يديه، رغم أنها سنته الأولى في الجامعية، ولم يمض عليه سوى شهور، لكن المركز كان وجهته التي خطط لها قبل الالتحاق بالكلية "زمايلنا الأكبر منا في البلد كانوا بيتكلموا عليه وكمان كنت بتابع صفحة دكتور عبد الله ودكتور هشام".

يخصص الشاب أوقاتًا يومي السبت والاثنين للتواجد في المركز، ووقتما فرغت ساعات بين المحاضرات، يفضل الطالب أن يقضيها في المعمل خاصة بعد ارتقائه لمهمة "عزل الحفريات" وتعنى إزالة الأتربة عنها.

7

حينما يثبت الطالب كفاءة في مهمته ينتقل إلى أخرى، لكن الأولى هي فصل الرواسب. يخبر الباحث الطلاب ألا ينشغلوا بالوقت الذي ينجزون فيه "مش مهم تشتغل كتير أو كام ساعة لكن المهم الحرص. ممكن يخلص التراب في سنة المهم تطلع الحفرية بدون خربشة أو كسور"، وبذلك يكون أثبت الطالب تمكنه لتولى دور أكبر.

يواصل الطلاب عملهم، فيما يدخل أحمد العراقي وابنته مريم ذات الخمسة عشر عامًا إلى المركز، انتهز الأب فرصة مرورهما بالقرب من جامعة المنصورة ليُري ابنته الكلية التي تخرج من قسم الكيمياء فيها قبل أكثر من 20 عامًا، والمكان صاحب الصيت.

8

تبدل حال المركز، من معمل صغير يضم الباحثين إلى مركز يتسع اليوم لثلاث حجرات، وتنقسم ساحته إلى ركنين، يضم أيمنه ما يحتاجه وما يلزم حتى بشكل شخصي لإعداد المشروبات، و4 طاولات، تعلو المجاهر اثنين منها، فيما يوضع على الأخرتين جمجمة ديناصور اكتشف بالسابق، ورخام يحتضن حفريات حوت، أحدث ما أنجزه فريق عمل المركز المكون من 7 باحثين خلاف رئيس المركز الدكتور هشام سلام، الأستاذ المساعد في قسم الجيولوجيا، والحاصل على درجته العلمية في مجال الحفريات الفقارية من جامعة أكسفورد البريطانية.

أما الركن الأيسر ففيه الخزانات والرفوف الممتلئة بحفريات متنوعة، متباينة الأحجام لكائنات تؤرخ لحقب جيولوجية للأرض انقضت قبل ملايين السنين.

9

يستقبل العراقي وابنته، الباحث عبد الله، الذي غادر الفيوم واستقر في المنصورة لأجل علم الحفريات منذ 4 سنوات. يصطحب عبد الله الزائرين في "منطقة السحر" كما يحب أن يطلق الباحثون على رفوف الحفريات، يحدثهم عن تاريخ مصر الحفري، يوضح لهم ماهية ما يرون، يشرح لهم الفارق بين الديناصورات "آكلات العشب جمجمتها صغيرة مقارنة بالجسم وآكلات اللحوم جمجمتها كبيرة".

يسير الجمع دون أن يلتفت إليهم أيا من الطلاب. يبادل العراقي الباحث بالأسئلة لمزيد من التوضيح لابنته "هو الديناصور ده كان طوله قد ايه؟. إيه أكتر مكان فيه حفريات؟"، فيما علامات الانصات والاندهاش لم تفارق مريم "حاجات كتير جديدة أول مرة أعرفها. أحجام الكائنات وتطور الحيوانات من شكل لشكل"، ليتأكد الأب أن ابنته استوعبت الهدف الذي طالما يسعى إليه مع بناته الثلاث باصطحابهم إلى مثل هذه الأماكن العلمية "أنور لهم الطريق في حياتهم بزيارة زي دي".

10

يذهب البعض إلى المركز بمعرفة مسبقة أو بدافع الفضول، لكم ما إن ينضم أحدهم إليه حتى تنتقل له طاقة سكانه، تتذكر الدكتورة شروق، العبارة المتكررة للمتدربين "حاسين أننا في بيتنا"، فيما تضحك بينما تستعيد مشهد انتهاء أوقاتهم "مش بيبقوا عايزين يمشوا.. بنمشيهم بالعافية وبيرجعوا تاني"، وكذلك فعلت إسراء أبو العزم.

عادت طالبة الفرقة الثالثة بعد إتمامها التدريب، رغم أنه ليس تخصصها. ما إن أنهت محاضرتها أخذتها خطاها نحو المركز، تتوجه نحو الأدراج بروح المعتاد على المكان، تخرج الأدوات وتنهمك في العمل أمام المجهر.

11

تغيرت الصورة التي طالما منعت إسراء من الذهاب إلى المركز "كان في بالي أنه معمل أبحاث يعني حاجة حكومية وهيبقوا جافين في التعامل وخايفين على كل حاجة وهيفضلوا يقولوا بلاش تمسكي ده"، لكن مع أول لقاء زال كل شيء؛ تلقف الباحثون طالبة قسم الكيماء/حيوان بود "تعالى اسمك أيه طيب شوفتي المنصوراصورس اللي جبناه. حطي أيدك عليه"، وباتوا يعرفونها على المحتويات ويدفعونها للإمساك بما يمكن.

انجذبت الطالبة لشغف الباحثون في توصيل العلم، والحرية المسؤولة التي تجدها في المكان "إحساس إن المركز ده ملكك أنت اللي تطلعي العينة تحفظيها وتنضفيها وتشليها"، فأمر طبيعي حين يفرغ الطلاب من عملهم، أن يعيدوا كل شيء لمكانه وينطفون المعمل.

12

أصبح المركز مكانًا مميزًا للطلاب، يسكنون إليه للعلم والمعاملة الطيبة، فضلا عما يمنحه تخصص الحفريات من دهشة لمن يطلع عليه. تبتسم إسراء بينما تلمح دخول زائرين جدد "أحنا متعودين على كده المكان هنا زي خلية نحل ناس بتدرب ودكتور عبد الله يشرح لناس بتزور ودكتور هشام شغال على البحث ويطلع يقعد معانا شوية".

يعود عبد الله إلى طلابه، تتبع عيناه ما يصنعون، فيما تراجع الباحثة حويزي ما انجزه الطلاب من استخراج العظام، إلى أن ينفتح الباب ثانية مع قدوم ضيوف أخرين؛ أحضر عصام النجار خريج قسم الجيولوجيا عام 2009، صديقه سالم ناصر خريج التجارة عام 2004 "قالي في متحف في كلية علوم. مصدقتش"، لذلك جاء ناصر من المنزلة ليرى بعينيه.

13

تولت حويزي جولة الصديقين. بدا عصام متلهفًا للسماع "جيت عشان كل الدنيا لازم تيجي وتشوف"، فيما ارتسمت البسمة على شفاه ناصر بينما يتطلع للنظر إلى ما تضمه الرفوف وتحدثهم عنه الباحثة "مخطرش في بالي أن مصر فيها ديناصورات أصلا. الحاجات دي بنشوفها في أفلام الخيال العلمي الأجنبية".

4 جامعات فقط في مصر تضم تخصص الحفريات الفقارية. باستثناء جامعة القاهرة يتولى أساتذة علوم المنصورة التدريس فيها باعتبارهم السابقون في المجال والمصدر الوحيد له، تقول الدكتورة شروق "بنسافر ندرس في كفر الشيخ وجامعة عين شمس".

14

لم يعد تخصص الجولوجيا والبحث عن الحفريات غريبا كما كان، تذوب الدكتورة شروق مع تذكر كيف أن بعض العمال بادروا بالسؤال عما يفعلون في المعمل "وإزاي بنصطاد ديناصورات؟"، حتى أصبحوا يلقبونهم بـ"بتوع الديناصورات".

حتى الأطفال لم تغب عن المركز، تقول الدكتورة شروق إن قدومهم بدأ أيضًا بالمبادرة "أم طفل اتصلت قالت ابني بيحب الديناصورات ينفع أجيبه؟"، ووصل الحال إلى انضمام الصغار للدورات التدريبية الصيفية "حوالي 6 أطفال من ابتدائي لأكبر من كده انهوا فترة تدريب كاملة. يجوا من 8 صباحًا وبنمشيهم بالعافية الساعة 3"، فيما بلغ عدد من استقبلهم المكان الفترة الأخيرة في الزيارات نحو 30 طفلاً من داخل وخارج المنصورة، بلغ أصغرهم 4 سنوات.

15

مع الثالثة مساء كل يوم، ينتهي تواجد الطلاب والزائرين في المركز، فيما يستكمل الباحثون مهمتهم العلمية، والمجتمعية بفتح آفاق الاتصال عمليا داخل المركز بالتدريب، وإلكترونيا على شبكات التواصل الاجتماعي، ويتشاركونها مع طلابهم ومن يعرفون بنقل التعلم إلى غيرهم، مثل إسراء التي حضر شقيقها طالب الثانوية العامة معها إلى المعمل، ودكتورة شروق، إذ تصطحب طفلتيها أوقاتا، ففي الأمتار التي تضم بقايا تشهد على ملامح حياة وجدت قبل ملايين السنين، هناك أساتذة وتلاميذهم ينشدون هدفًا يذكره عبد الله جوهر، مسؤول الحفريات "أن العلم اللي بنسعى ليه يوصل للكبير والصغير. اللي فاهم ومش فاهم".

فيديو قد يعجبك: