إعلان

آدم وحواء والطعام الأرضي الأول..

د.هشام عطية عبدالمقصود

آدم وحواء والطعام الأرضي الأول..

د. هشام عطية عبد المقصود
10:11 م الجمعة 13 أغسطس 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ستمضي الحياة في مسارات مألوفة تطورًا ومعها سيعرف الناس أنواعًا شتى من الطعام، وتتشكل لدى كل بلد بل وكل مجتمع محلي ثقافة طعام لها سمات خاصة، تحمل من تاريخه البعيد شيئًا، ومن خصائص بيئته المحلية شيئًا، ويمتزجان معًا، وستصنع ثقوب ذاكرة الشبع لدى البشر نهمًا مرنًا نحو التهامات جديدة تبحث عن مذاقات طعام مختلفة، تضيف وتجرب وتتذوق، مقاومة ثبات ألوان ما استقر عليه نوع الطعام والذائقة الثابتة التي صارت ساكنة مللا.

وبينما تتغير تفضيلات أنواع ووصفات الطعام بين أفراد البشر في كل مجتمع، تبقي دومًا تلك الأكلات العابرة للذائقة الشخصية وأيضًا للزمان وللجغرافيا ماثلة تقاوم وترسخ حضورها، حيث تفرض سحر سطوتها رائحة وطعمًا؛ وبهاء لا ينتهي، تلك هي ما يطلق عليه الأكلات القومية أو مذاقات الأطعمة الوطنية الفريدة التي يقرأ عنها السائحون ويميلون إلى تجربتها حين يحلون أهلًا، كما يفضلها المسافرون عن الأوطان غربة فيتذكرونها في معلقات الشغف بالطعام ويلحون في طلبها.

وتظل تلك الطاقة الباحثة الساعية المكتشفة لجديد الأشياء عامة والمتضمنة في فطرة الإنسان هي صانعة تحولات الكون جميعها، تظللها المشيئة الإلهية فتطور تفاصيل الحياة جميعها في رحاب فعل السعي، وهكذا تغيرت طبيعة الإنسان من مخلوق أول بدائي عار سوى من ورق الشجر إلى كل ذلك الحاصل مما صار معروفًا ومألوفًا في شكل وهيئة البشر، وثقافات مأكلهم وملبسهم وعموم سلوكهم.

نعود لنقطة البدء الأولي عن كيف كان الطعام الأرضي الأول لآدم وحواء؟، وهل شعرا معًا مثلًا بملل ما من تكراره، وذلك بعد هدأة اكتشافه وتلبية حاجات الطعام مقومًا أوليًا لاستمرار الحياة؟ وكيف جرت محاولتهما في بناء أول ثقافة وتقاليد للطعام حين صارًا من أهل الكوكب الأرضي يفعلان ما يفعله بعد ذلك الساعون في الأرض من بحث ومكابدة عيش.

ثم كيف كان شكل وجبة الطعام المكتشفة الأولى؟ وكيفا استشعرا مذاقها؟ وهل كان الطعام ثمرًا أم ورقًا أم لحاءً أم لحم لحيوانات برية أم بحرية؟، وما نوع ذلك الحيوان الأول الذي مثل أول تعرف للبشرية على لحوم الحيوانات والطير، ثم استساغتها؛ ليستقر طعامًا في العالم جميعه، وحيث يصف لنا القرآن الكريم ملمحًا دالًا عن قوم سيدنا موسى الذين سيطرت عليهم رغبة في تنويع ألوان الطعام؛ ليضم ما يخرج من الأرض زرعًا؛ وثمرًا من البقوليات والفجل والكرات والبصل والثوم رغم أن ما يتنزل عليهم هو المن والسلوى طعام من السماء: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَي لَن نَّصْبِرَ عَلَي طَعَامٍ وَاحِدٍ".

في ثقافة استمرار الطعام عبر الأجيال ربما تتبدى لنا من مراجعة التاريخ شيئًا عن إنه قد يتم توارث المذاق الغذائي، مثلًا كفعل أول ثم يتم تطويره طوال الوقت بإضافات شتى، بحيث إن ما يستسيغه الأب والأم يأكله الأبناء؛ ليشيع ويكون بعدها ثقافة مجتمعية تمضي بإضافات نوعية عبر الزمن، ليأخذ معالم الاستقرار طعامًا ونوعًا، وأن اكتشاف نوع جديد من الطعام ودوام حضوره يتم بفعل مبادرات واكتشافات فردية شجاعة تضيف إلى ما هو مستقر من عادات وتقاليد وثقافة الطعام، لتمضي مفردات قوائم الطعام في اضطراد.

كما تقول لنا تجارب المجتمعات أن معظم البشر في مجتمع ما قد تستطيب طعامًا معينًا ويصبح مفضلًا لديهم، بينما لا تحظي أطعمة وأكلات أخرى، بذلك القبول الواسع، تغيب المؤشرات والدراسات التي تمنح ترجيحًا دالًا لذلك، وتبقى التجربة الخاصة، وما نراه مجال التقدم في المعرفة والفهم.

وتظل بعض الأطعمة والمشروبات تحتفظ بذاكرة خاصة لدي بعض الناس، لكونها لها تاريخ شخصي وجماعي وبعض من سيرة حياة ورائحة أمكنة صحبة تفيض بالتواريخ البهيجة، فبعض الطعام يستحضر طقسًا ما وذكرى ما -كأطباق الفتة في العيد مثلا- ويتعاظم تأثيرها الوجداني في سياق ذاكرة حضور الأهل والأصدقاء في تواريخ بعيدة، كما أنه قد يصل الأمر أنه في بعض ألوان الطعام ومن قوة تأثير سياق حضوره الأول الفريد تأبى أن تأكله ثانية سوى في مكانه الذي شكل تاريخه في ذاكرة شهيتك بقاء مزهرًا، والمسألة هنا ليست أبدًا في جودة ولا نوع الطعام ذاته بل ما صنعه طقس وسياق تناوله، فربما بعضًا من شرائح الجبن الرومي مع كوب شاي وعددًا من أصابع البقسماط المقرمشة بالسمسم في مكان ما عرفته أو في مقعد ما على إطلالة ما أثيرة لديك تظل أشهى تمامًا عن كل ما يحضر في عرف البعض مأمولاً من طعام.

وتحتفي الذاكرة الجمعية المصرية بأكلات معينة، وأظن أن ذلك التأثير الكبير مرتبط باندثار ثقافة صناعتها المنزلية رويدًا، حين كانت جزءًا أساسيًا من تقاليد تعلم الطهو في البيوت، تمامًا مثل "الفطير المشلتت" الذي كان متاحًا ويسيرا في كل بيت ريفي قديما وصار يصنع آليا أو بغير اتساع نطاق احتراف صناعته المتوارث، كما تكتسب بعض الأكلات حضورًا وأهمية ارتباطًا بعدم سهولة إتاحتها منزليًا وتقلص مهارة إنجازها التقليدية في البيوت، أو صعوبة ذلك وما يتطلبه من وقت وجهد، وهكذا شهدت صناعة تسويق وجبات "الأكل البيتي" رواجًا استهلاكيًا جديدًا، متنوع الأعمار والفئات.

ومع تقدم عولمة الطعام في صورة أفرع مطاعم تقدم وجبات بمواصفات ثابتة، أصبحت تتخذ شكلًا موحدًا خاليًا من الهوية الخاصة لطهوها بمواصفات مذاق أهل كل بيت، انظر مثلا أولئك الذين يشيدون بطعم الملوخية عند هذا المطعم أو ذاك، وهم لا يدركون أنه طعم موحد يأكله كل من يرد المكان أو يطلبه، بينما احتفظت الأكلة ذاتها في البيوت القديمة بنكهتها الخاصة، والفريدة حتى أنك كنت تأكلها عند جدتك أو عمتك مختلفة مذاق ورائحة عما هي في بيت أمك، وفي كل خير مذاق شهي، وهكذا نظل متشبثين بما أدركناه من ذاكرة التشهي واستحضار طقوس الأكل التي عرفنا، وحيث مع الوقت لا يكون الطعام سدًا عابرًا جائرًا لجوع ملتهم بدائي، بل شيئًا يشبه ما تفعله الموسيقى في الجسد والروح، ويحمل دومًا صوت الأحبة وروائح الأمكنة.

إعلان