إعلان

القاهرة

عبد الله حسن

القاهرة

عبدالله حسن
07:02 م الإثنين 20 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

انطفأت أضواء مدينتنا.. أصبحت الشوارع والمساجد والمطاعم خاوية على عروشها.. لم أتخيل في حياتي أن تُصبح القاهرة بهذا الشكل من يوم أن أتيت إليها مثقلا بالأحلام والأحمال منذ أكثر من عشر سنوات.

سأتحدث اليوم عن القاهرة.. تلك العاصمة الشابة العجوز الجميلة القبيحة التي تحمل في تناقضاتها سر روعتها.

الحلم والحياة والشهرة بالنسبة لمن هم خارجها.. والزحام والضوضاء والتكدس لمن هم بداخلها.. الحياة الأرستقراطية والكومباوندات والشياكة.. والفقر والجوع والعشوائية.. الحب والرومانسية والسهر.. وأطفال الشوارع وأكوام القمامة.. الشكل الصارخ للرأس مالية.. والاشتراكية والتكافل في أبهى صوره.. التدين والتسامح.. والإرهاب والتطرف.. المحبة والتراحم.. والعنصرية الشديدة.

القاهرة منذ أن سماها "جوهر الصقلّي" تحتفظ بقدر كبير من القهر، فهي قاهرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. على أبوابها سقط الآلاف من المحتلين والغزاة.. وانتحر عاشقوها طمعا في تخليد أسمائهم بجانب اسمها.. هي المدينة التي تقهرك وأنت مستمتع.. تُظهر لك جمالها الفتّان في المساء، ترتدي فستان سواريه بكامل أناقتها وتغويك لتقترب أكثر وأكثر، وما إن امتلكتك حتى تسقط في غرامها كما سقط ملايين قبلك، وسيسقط بعدك.. وفي الصباح تخرج عليك بقميص الكادحين تتصبب عرقا وتلهث خلف "لقمة العيش".

أتذكر في أول مجيئي هنا، وأول لياليّ كم شعرت بالغربة بعيدا عن بيت أهلي وشوارع مدينتي الصغيرة! وكم كنت أنتهز الفرصة في الإجازة الأسبوعية لأنطلق خارج أسوار هذه المدينة الغريبة.. يوما بعد يوم عشقتها.. وأصبح الخروج منها أمرا صعبا وقرارا ثقيلا.. تأففت من الزحام فترة، ولكن سرعان ما أحببته أيضا.. وأصبح من الطبيعي أن يستغرق المشوار البسيط ساعتين.. أحببت كوبري أكتوبر ورأيته يشق المدينة حاملا أطنان السيارات التي لا تكف عن إصدار العوادم والضوضاء بعين المُحب، والبائعين الجائلين والشحاذين أحببتهم، أيضا، وصرنا أصدقاء، وحفظت أماكنهم.. أصبحت قاهري الهوى والهوية.

بدأت رحلتي كالكثيرين من - مريديها - إن جاز التعبير.. بدأت بالتشبث بتذكرة المترو الصفراء حتى لا تسقط، وأجد نفسي حبيس البوابة الحديدية في محطة الخروج إلى التشبث بما تبقى من حياتك وإصرارك على التنفس بداخلها.. عشر سنوات أو اقل كانت كفيلة بأن أتحول لوجه آخر من الوجوه التي أراها يوميا.. أستيقظ صباحا لأدور في الساقية داخل شوارعها وأعود مساء أتأنّق لأقابلها وأنهل من عشقها حتى الفجر.

هذه المدينة التي تسرق أنفاسك، وتعبث بك، ولا تقوى على خصامها، ولا تتحمل زعلها.. أراها اليوم فارغة.. باهتة اللون وهو ما يعز عليّ كمحب وعاشق ومريد..

شاهدتها، بالأمس، من شرفة منزلي، ولم أتعرف عليها.. هي تشببها نعم، ولكن اختفى منها الكثير.. لم تعد كما عرفتها.. "لعن الله الوباء الذي فعل بك كل هذا".. من كان يصدق أن القاهرة التي لا تنام تستكين من الساعة الثامنة إلى صبيحة اليوم التالي.

لا أتخيل أن يستمر الوضع بهذا الشكل كثيرا.. القاهرة كعادتها ستقهر الوباء.. المدينة التي استطاعت أن تحيا على مدار قرون وخرج منها نور أضاء العالم أجمع لا تنطفئ.. لا تموت.. هي مسألة وقت لا أكثر، وستعود.. حتما ستعود.

إعلان