إعلان

سجال الحداثة والتراث وإشكاليات خطابنا الثقافي "3 - 3"

طارق أبو العينين

سجال الحداثة والتراث وإشكاليات خطابنا الثقافي "3 - 3"

طارق أبو العينين
09:04 م الأحد 23 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

انتهينا في المقال السابق من نقاش القضية الثانية المتعلقة بسجال الحداثة والتراث على خلفية السجال الذي دار بين رئيس جامعة القاهرة وشيخ الأزهر، خلال مؤتمر تجديد الفكر الإسلامي، وهي قضية علاقة النسبي بالمطلق في خطابنا الثقافي المعاصر، والتي أشرنا إلى أنها سوف تقودنا بطبيعة الحال إلى نقاش القضية الثالثة والأخيرة المتعلقة بهذا السجال، وهي تعريف دور المثقف التنويري الحداثي في ضوء سجاله الكلاسيكي مع التراث.

يقول الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، إن الفيلسوف يتلخص دوره في أن يقول للناس كيف يعيشون، ومن هذا المنطلق كان، ولا يزال دور المثقف الغربي في ضوء الخطاب التنويري الحداثي بمثابة دور يكافئ دور الرُسل في العقائد الدينية؛ وهو ما دفع المفكر الفرنسي جوليان بيندا في كتابه الشهير "خيانة المثقفين" إلى ربط السيد المسيح بكبار فلاسفة ومفكري أوروبا الداعين إلى تحرير العقل من سلطة اللاهوت، مثل فولتير وسبينوزا وإرنست رينان؛ بوصفهم جميعاً حلقات في سلسلة واحدة تؤكد، في آن، الطابع الثقافي للنبي والطابع النبوي للمثقف، وفقاً لتعريفة الديني للمثقفين وأدوارهم الذى استلهمه بطبيعة الحال من روح ذلك الخطاب التنويري الحداثي.

لكن المفارقة اللافتة تكمن - بحسب اعتقادي - في أن المثقف التنويري الحداثي الغربي والعربي قد أوقع نفسه في مغالطة فكرية حولته من صاحب عقل نقدي إلى واعظ أخلاقي كئيب؛ انطلاقاً من نفس المنطلق الذي دفعة دائماً إلى الصدام مع الدين ورجاله، محولاً بفعله هذا السجال بين التنوير والتراث الديني إلى طقس سرمدي من طقوس حياتنا الثقافية المعاصرة.

فالمثقف التنويري اعتقد تاريخياً بأن واجبه الأسمى والأوحد هو مواجهة عدوه المتمثل في القوى الظلامية الدينية؛ على اعتبار أن الإرهاصات الأولى لحركة التنوير في أوروبا قد شهدت صداماً عنيفاً بين قوى التنوير من جانب واللاهوت وسلطة الكنيسة من جانب آخر، وهو ما دفع المثقف التنويري لتعريف التنوير بأنه فصل الدين عن الدولة وولادة النزعة العلمانية متقمصاً كما يقول بول جونسون في كتابه "المثقفون" لشخصية بروميثيوس في الأسطورة الإغريقية، عندما سرق النار المقدسة، وهبط بها من السماء إلى الأرض، ما جعل السمة المميزة للمثقف العلماني التنويري هي ميله لإخضاع الدين وأبطاله للفحص النقدي مؤكداً في الوقت ذاته قدرته على تشخيص أمراض الناس بالعقل فقط، ما أدى إلى انهيار دور الدين وتقليصه.

وعلى اعتبار أن الحداثة بمفهومها الحقيقي تعني بالنسبة إلى كاتب هذه السطور إخضاع كل أمر نسبي للفحص والتساؤل أولاً قبل التسليم بصحته، فإن هناك أمورا عديدة تستوجب الفحص والتساؤل فيما يتعلق بعلاقة المثقف التنويري العربي بالتراث، على اعتبار أنه قد بنى مشروعه انطلاقاً من نفس الموقف الفكري الذي تبناه المثقف التنويري الأوروبي في مواجهة التراث الديني وأبطاله.

فشعار التنويريين العرب الذي يرفعونه دائما في مواجهة التراث بأن لا سلطان على العقل إلا العقل وحده - لا يعنى أن موقفهم من التراث فوق النقد أو أنهم يمتلكون حلاً سحرياً عقلانياً لكل مشاكل المجتمع، فموقف فلاسفة التنوير من التراث الديني في أوروبا في القرن الثامن عشر لم يكن فوق النقد الذي وُجه لهم للمفارقة من قبل فلاسفة محسوبين على التيار التنويري، مثل جان جاك روسو الذي انتقد في كتابه "إميل" موقف رفاقه من فلاسفة التنوير من الإيمان الديني متهماً إياهم بأنهم يسحقون تحت أقدامهم كل ما يوقّره الناس، ويسرقون من الذين يعانون السلوى التي يستمدونها من الإيمان الديني ويأخذون القوة الوحيدة التي يمكن أن تكبح أهواء الأغنياء، كما أن انتشار الأفكار التنويرية لا يعني في حد ذاته ترسيخاً لمبدأ سيادة العقل أو حلاً لمشاكل المجتمعات الإنسانية كافة، وهو ما أشار إليه الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل في كتابه "حكمة الغرب" مؤكداً أنه على رغم حرص فلاسفة التنوير على ترسيخ مبدأ سيادة العقل، فإن الثورة الفرنسية لم تبدِ احتراماً كبيراً للعقل؛ فقد حوكم لافوازييه، مؤسس الكيمياء الحديثة، أمام محاكم ثورية في عهد الإرهاب، وحين قيل للمحكمة إنه من أعظم العلماء ردت بأن الجمهورية لا حاجة بها إلى العلماء، وهكذا قطعت رقبته بالمقصلة، وقد أشار راسل كذلك إلى أن حملة هؤلاء الفلاسفة على التفكير الديني والميتافيزيقي ودعوة الناس إلى طريق العقل والعلم، الذي يمكن أن يقيم شكلاً من أشكال الفردوس على الأرض - تؤكد أن هؤلاء الفلاسفة وقعوا ضحايا لوهم رومانتيكي ساذج؛ لأن الحلول الدائمة والنهائية للمشاكل كافة لا تنتمي لهذا العالم.

وهو ما يعنى في النهاية أن تلك البطانة الروحية التي غلف بها المثقف التنويري العربي خطابه في مواجهة التراث بدعوى احتكاره للحقيقة وللعقلانية؛ معتبراً في ذات الوقت أن مقولاته فوق النقد والمساءلة - قد جعلته ينحرف عن دوره الأساسي الذى يستوجب مواجهة الجمود والتزمت لا توليدهما، بحسب ما أشار إليه المفكر الفلسطيني/ الأمريكي إدوارد سعيد في كتابة "صور المثقف"، وهو دور يتطلب أن يوضع في إطار ظروفه الخاصة وتناقضاته التي لا تحرمه من أهليته كمثقف بقدر ما تقدمه ككائن إنساني معرض للخطأ، وليس كواعظ أخلاقي كئيب.

إعلان