إعلان

الإسلام والليبرالية وفلسفة الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي

طارق أبو العينين

الإسلام والليبرالية وفلسفة الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي

طارق أبو العينين
09:00 م السبت 21 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تُعد قضية الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي من أبرز القضايا التي تصدت لها منظومات المعرفة الشاملة والكلية سواء كان مصدرها ميتافيزيقيًا (غيبيًا) كالأديان السماوية أو علمانيًا وضعيًا كالفلسفات المادية والأيديولوجيات التي ظهرت منذ بداية القرن السابع عشر كأطر معرفية شاملة وبديلة لتلك الأطر الدينية الغيبية، والسؤال الذى يطرحه هذا المقال هو: إلى أي مدى نجحت أو أخفقت تلك الفلسفات المادية الوضعية في معالجة قضية الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي مقارنة بالمنطق الديني في معالجة نفس القضية؟....

فالإجابة عن هذا التساؤل تقتضي استعراض موقف الفيلسوف البريطاني الشهير "جون ستيوارت مل"، وهو لمن لا يعرف أحد أهم أعلام الفكر الفلسفي البريطاني في القرن التاسع عشر، وقد نال هذه المكانة باعتباره أحد أبرز المجددين الذين أضافوا إلى رصيد الفلسفة الليبرالية التي نشأت في بريطانيا في القرن السابع عشر على يد أقطاب المدرسة التجريبية الإنجليزية، مثل "جوم لوك" و"ديفيد هيوم" و"جورج باركلي"، فقد كانت إسهامات "مل" خلال القرن التاسع عشر بمثابة العتبة، أو الحلقة الوسيطة بين جيل الآباء المؤسسين المشار إليهم من المنتمين إلى حقبة الفلسفة الحديثة في القرن السابع عشر وبين جيل الفلاسفة الليبراليين المعاصرين المنتمين إلى القرن العشرين مثل البريطاني "كارل بوبر" والأمريكي "تشارلز فرانكل"....

و"جون ستيوارت مل" له كتاب مهم يعتبره كثيرون مؤلفه الأيقونة بعنوان (عن الحرية)، وفيه يحاول "مل" وضع الحقوق والحريات الشخصية وجهًا إلى وجه في مواجهة حق المجتمع في تقييد تلك الحريات، وفى هذا الإطار تطرق "مل" إلى حق المجتمع في التدخل لتقويم أي سلوك أخلاقي معوج قد يظهر على أفراده، وقد أنتجت أفكار "مل" في هذا الصدد تخريجةً أظنها غير منطقية أو إنسانية، فهو يرى أن المجتمع لا يحق له تقويم صاحب السلوك المعوج حتى وإن كانت وجهة نظر المجتمع صحيحة طالما لم يترتب على هذا السلوك مساسًا بحقوق الغير؛ لأن صاحب هذا السلوك سوف يدفع بشكل شخصي ثمنه دنيويًا بتدهور صحته أو خسارة أمواله كحال مدمن الخمر أو القمار مثلاً، وبذلك سوف يكون عبرة لغيره من الناس إذا ما حاولواً تكرار فعلته، ومن ثم ينضبط قانون المجتمع الأخلاقي دون الحاجة إلى أي تدخل في شؤون الأفراد يترتب عليه تقييد حريتهم الشخصية....

فدفاع "مل" هنا عن الحريات الفردية قد دفعه إلى انتهاج "نهج دارويني" تجاه مرتكبي الخطايا الأخلاقية انطلاقًا من الدفاع عن حرياتهم الفردية، فهو هنا قد قضى على المريض دون أن يقضي على المرض، فقد كان الأولى بالمجتمع -من وجهة نظري- التدخل لإعلان موقفه الأخلاقي ومحاولة تقويم المخطئ بدلاً من تركه فريسة لقانون البقاء للأصلح، وهنا تنبغي الإشارة إلى مفهوم ديني مؤسس للإصلاح الأخلاقي في ثقافتنا الإسلامية، وهو مفهوم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فرغم إساءة استخدام الجماعات الدينية المتطرفة لهذا المفهوم كأداة لإحكام سيطرتها على المجتمع فإن هذا التأويل الرديء يخص أصحابه فقط ولا يمكن أن ينسحب على ثقافتنا الإسلامية ونجاعة منطقها في معالجة تلك القضية، خصوصًا إذا ما وضعت تلك الثقافة في إطارها الوسطي المعتدل الذى يعبر عن جوهرها الأصيل وحقائقها الوجودية التي تهدف إلى السمو الأخلاقي والتراحم المجتمعي فـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يجب أن يكون باللين ولا يهدف إلى ممارسة أي صورة من صور التسلط على الناس: "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، كما أن تغيير المنكر لا يجب أن يترتب عليه ضرر أو إيذاء بدني أو نفسي للمخطئ: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"، كما أنه أصل خيرية الأمة الإسلامية وأحد دلائل تحقيق إيمانها بالله: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"؛ ولذلك كله ينبغي القول بأن الإسلام قد تفوق في معالجته لقضية الإصلاح الأخلاقي على الفلسفة الليبرالية التي ترفع شعار الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان؛ لأنه ركز على معالجة المريض من المرض بدلاً من تقديمه قربانًا للمجتمع كي يتطهر أخلاقيًا، بزعم الدفاع عن حريته الفردية كما فعلت الفلسفة الليبرالية....

ولأن سبق الثقافة الإسلامية في مجال الإصلاح الاجتماعي أيضًا هو بمثابة حقيقة لا يمكن لأحد أن يُخفيها أو يجحدها فقد أشار "جون ستيوارت مل" في نفس الكتاب إلى مدى اهتمام الإسلام بالحقوق والواجبات الاجتماعية مقارنة بالديانات الأخرى مشيدًا في كتابه بالمقولة الإسلامية الجامعة "كل والٍ يستكفي عاملاً عملاً وفى ولايته من هو أكفأ منه فقد خان عهد الله وخليفته"، فالإسلام عندما أمر بإسناد الأمر إلى أهله بمحاربة كافة أشكال الواسطة والمحسوبية فقد دافع عن أعظم الحقوق والواجبات الاجتماعية بتحقيق مبادئ، كالنزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص بين الناس؛ لأنها مبادئ لا يمكن لمجتمع أن يستقيم أو يتقدم دون تحقيقها أيًا كانت مرجعتيه الفكرية، ولذلك لم يجد "جون ستيوارت مل" غضاضة في الاستشهاد بتلك المقولة الإسلامية وبناء تصوره للإصلاح الاجتماعي عليها على اعتبار أن ثقافتنا الإسلامية هي جزء أصيل من المنجز الحضاري الإنساني وليست حكرًا على المسلمين وحدهم، ومن ثم فإن عظمتها تكمن في نفعها للإنسانية كلها بما تحويه من جواهر أخلاقية ومجتمعية تسمو بالإنسان روحيًا وتحقق مصالحه دنيويًا....

إعلان