إعلان

أصحاب الهمم (12).. بين العبقرية والجنون "2"

د طارق عباس

أصحاب الهمم (12).. بين العبقرية والجنون "2"

د. طارق عباس
09:00 م الخميس 19 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ظل "فينسنت فان جوخ" غارقا – إلى حد التطرف – في هوسه الديني، غير معني إلا بنشر التعاليم المسيحية ومبادئ الكتاب المقدس وكأنه بذلك يحاول أن يستبدل تجربته العاطفية الفاشلة بحب من نوع آخر، تتماهى فيه ذاته مع الله ويتحول بروحه من عالم الشهوة الجسدية والغريزة البشرية إلى عالم المُثُل العليا، كاد بتكريس وقته وجهده وذهنه للدين أن يهجر الحياة والفن ويبدو حريصًا على تقديم نفسه للناس حافظا للإنجيل وساعيًا لتحفيظ الناس الإنجيل، كان عمره وقتها 23 سنة حين اعتكف وألزم نفسه بالتخلي عن كل ملاذ النفس والحياة، وللتأكيد على تلك الرغبة ولتأصيل قيمها، اتجه "فان جوخ" إلى "أمستردام" ليدرس في "المعهد اللاهوتي" هناك مدة 6 أشهر، وبعد أن أتمها بنجاح رشحته السلطة الدينية للانضمام إلى بعثة في "بلجيكا" وبالتحديد في "بوريناج" وكانت تلك المنطقة قريبة من "عمال مناجم الفحم" والذين كانوا بالنسبة له نمطًا إنسانيًا خاصًا؛ لأنهم تكيفوا مع الفقر والمعاناة والبؤس بحكم طبيعة عملهم الشاقة والقاسية، لذلك تعاطف معهم "فان جوخ"، ومع أوضاع عملهم المخيفة بل واختلط بهم وحرص على أن يتحدث إليهم باستمرار ويعايش معاناتهم ويفعل كل ما بمقدوره – كزعيم روحي – لتخفيف الأعباء الملقاة على كواهلهم، حتى نشأت بينه وبينهم علاقة حميمة، جعلته يتنازل لهم عن كل شيء: "عن طعامه، عن شرابه، بل وربما عن ملابسه التي قطع بعضها وحولها لضمادات كان يستخدمها العمال إذا ما تعرضوا لأية إصابة أو جُرح".

من حُسن الحظ أن "فينسنت فان جوخ" كان حريصًا على مراسلة أخيه "ثيو" – أقرب الناس إليه وأخلص المخلصين والداعمين له – من أجل تعريفه بكل ما كان يتعرض له من أحداث طيلة حياته وهي نفسها الوسيلة التي اعتمد عليها عشاق "فان جوخ" وتلاميذه فيما بعد؛ لمعرفة خصائص وتفاصيل اللوحات الفنية التي عُثِرَ عليها ومما كتبه "فان جوخ" بشأن عمال الفحم: (عزيزي ثيو، أنت تعرف جيدًا أن أحد المبادئ الأساسية للكتاب المقدس هو النور الذي يسطع في الظلام، ولا شك في أن أكثر من يحتاج إليه في هذا الوقت هم عمال المناجم، فبالنسبة لهم ضوء النهار غير موجود إلا يوم الأحد، ولا يرون ضوء الشمس بل ويعملون طوال الوقت على ضوء المصباح وسط رؤية معتمة وضعيفة في واد ضيق، إما حانين أجسادهم بشدة أو زاحفين أحيانا) .

لقد كانت مهنة الوعظ بالنسبة لـ"فان جوخ" منتهى أمنياته وأمانيه، وإمعانًا في الإعجاب والافتنان بها، راح يرسم العمال وهم يؤدون أعمالهم بين أكوام الفحم ومناجمه، ورغم من أن موهبته لم تكن قد تبلورت في تلك الفترة العمرية فإنه كان يرى أن تعبيره عن تلك الفئة هو نوع من إثراء الخيال والتدرب على التعبير عن معاناة هؤلاء من خلال الفن.

في مدينة "بوريناج" البلجيكية عاش "فان جوخ" ناسكًا زاهدًا، اعتاد النوم على الأرض وعدم الاغتسال والحرص على تقديم الجبن للفئران بدافع حبه لجميع المخلوقات وارتداء الرث من الثياب والوقوف أحيانًا للصراخ أمام الكنائس بالدعوة لضرورة التمسك بما جاء في الكتاب المقدس والتعويل على الإيمان به سبيلًا لبلوغ الجنة الموعودة.

لفتت تصرفات "فان جوخ" المتطرفة الناس من حوله، فخافوه وتجنبوه واعتبروه في بعض الأحيان مجنونًا مختل العقل، وفرضوا عليه عزلة أغرقته في مرارة الوحدة، وكادت تصيبه بالاكتئاب النفسي الحاد، بل ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما بمجرد أن علم والده بأنباء ابنه وممارساته التي تمس سمعته وسمعة العائلة كلها، حتى طار إليه وحذره من مغبة ما يقوم به، لكن "فان جوخ" لم يكترث بما سمع، وظل على حاله حتى اضطرت السلطة الدينية نهاية الأمر لفصله من عمله ويغادر الرجل بلدته إلى أخرى، وكانت تسمى "كيوسميس"، حيث ساءت أحواله هناك أكثر وأكثر، وفشل في أن يجد لنفسه مورد رزقٍ يتعايش منه، الأمر الذي جعله يضيق بما آلت إليه أحواله ويقرر فجأة إسدال الستار على مرحلة كانت – بحسب وصف "فان جوخ" – الأسوأ في حياته ليبدأ فصلاً جديدًا أساسه وعنوانه "الفن" فحمل لوحاته بين ذراعيه وانتقل بها إلى "بروكسل" البلجيكية؛ ونظرًا لأهمية تلك النقلة كتب لأخيه ثيو قائلاً: (لا بد من أن أخبرك يا ثيو إنني بالرغم من كل شيء سوف أنهض ثانية وسأتناول من جديد ريشتي التي تخليت عنها في أيام انكساري وسأمارس الرسم وسأمرن نفسي على أن أكون واحدًا من بين أشهر الرسامين في العالم).
وللحديث بقية.

إعلان