إعلان

"الشمندر".. لوحات عائلية متماسة تصنع "رواية أجيال"

عمار علي حسن

"الشمندر".. لوحات عائلية متماسة تصنع "رواية أجيال"

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 24 يوليو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم يشأ الكاتب خالد الخميسي أن تأخذ روايته الأخيرة "الشمندر" خطا واحدا، أو شكلا تقليديا للحكي، ربما مدفوعا أو محكوما في هذا بميول بطل الرواية، الفنان التشكيلي، الذي ينظر إلى حياته باعتبارها مجموعة من اللوحات المتتابعة، متراوحة بين اتصال وانفصال، وتمهل وهرولة، وغرق في التفاصيل أحيانا والتغاضي عن مواقف وأحداث كثيرة أحيانا قافزا إلى النتائج والخلاصات، التي ترسم معالم حياة شخص تقلبت به الأيام كما شاء لها، وحشد له الكاتب ما استطاع إليه سبيلا من الناس المختلفين، والوقائع الغريبة، بغية أن يقيم له معمار حياة تدور جميعها حول "الفن" و"النساء".

تحتاج الرواية من قارئها إلى أن يبذل جهدا في تتبع مسار شخصياتها، والانتباه إلى شخصيات جديدة تأتي من الهامش وتدخل إلى متن الحكايات المتلاحقة، ثم تخرج. فالراوي هو من يستدعيها إن وجد ضرورة لهذا، وهو من يبعدها إن انتهى دورها بالنسبة له، متقدما إلى غيرها، وهو أمر طبيعي تأخذ حياة أي فرد، وشيء يغلب على فن السير الذاتية، وهو ما تتوسل به رواية تعد أشبه بسيرة ذاتية لبطلها "شهاب الشمندر".

ويبدو أن "الشمندر" لديه رغبة عارمة في لفت الانتباه إلى نفسه، ومسار حياته، وما يقوله أو يفعله، ولهذا أبدى حرصا شديدا على الإتيان ببعض الغريب وربما المنفر والشاذ والصادم من المواقف التي تعرض لها، فمن صراعه ضد المراهق المتخصص في اغتصاب أطفال الحي، إلى اشتهائه رؤية خالته عارية فيما يسميه "حمام سعيد السعداء"، إلى عرض حالة اغتصاب لبنت البواب من أخيها في مقطع حمل عنوان "أحاجي الرغبة المستعرة في زنا المحارم" تلهب خيال الفنان أن يرسم عنها لوحة عن الاغتصاب، إلى علاقة البطل الجنسية بالخادمة، وسعيه الدائم إلى مضاجعة النساء، حتى أنه أنجب بنت سفاح لم يعرف بها إلا حين أصبحت شابة يافعة، وأجبر أخرى على إجهاض جنينها وهي في الشهر الخامس، متمارضا حتى لا يحضر عملية الإجهاض، ثم هناك بنت خال والدته التي كان يرعاها، وأرادت معه استكشاف علاقة حميمة فتهرب منها، حتى أن الرواية تنتهي وهو ملقى على سرير بالمستشفى بعد أن سقط مغشيا عليه في فراش "جيهان" الجارة المطلقة، التي سبق أن خطب أختها وتركها، إلى جليلة مهران التي قتلت زوجها بطريقة غريبة، وهي وضع قطرتي كلور في كوب ماء كل يوم حتى انثقب جهازه الهضمي، بعد أن اكتشفت خيانته لها مع الخادمة، إلى جده الذي كان متيما بالعاهرات، واضطر إلى الزواج من إحداهن بعد أن حملت منه سفاحا، إلى خالته برلنتة التي أغوت رجلا، وأخذته من زوجته وأولاده وتزوجته. وبدا أن النساء العفيفات في الرواية، لا تعود عفتهن إلى التزام أخلاقي أو تدين، إنما إلى عقد نفسية، لأنهن تعرضن لاغتصاب، فكرهن الرجال، أو نال منهن الاكتئاب، مثلما حدث مع زوجته التي كان يبرر خيانته لها بأنها مضطربة نفسيًا.

وينحاز بطل الرواية إلى الجمال الغربي، فنجده قد تتيم بصاحبات الملامح الأوروبية حين سافر خارج مصر، وفي مصر كان دائم المديح للنساء من أصول تركية وشركسية ويونانية، حتى حين خطب فتاة مصرية سرعان ما تركها حين ملأ عينيه من فتاة من أب مصري وأم ألمانية جاءت للسكنى في البناية التي يقطن فيها. وبذا بدا في عالم النساء منبت الصلة عن واقعه، كذلك في أغلب اهتماماته الفنية، ليكون "متفرنجا" وإن شئنا فلنسمه مغتربا، أو مسلتبا.

وجارى الكاتب رغبة الشمندر وولعه بالنساء، فمنحه عناوين لافتة بغرابتها وتراكيبها واستعادتها أسماء مشاهير في مجالات عدة، كي يضعها على صدر كل حكاية من قبيل: "جليلة وملاك هتلر الفضي" و"جسد برلنتة الشفاف في حمام سعيد السعداء" و"انتحار سلفادور دالي في شاطئ جليم" و"داروين والجربوع وأصل الأنواع" و"يد الإله الأول على وجه ليلى الساطع" و"أشعة السماء تنير وجه العذراء ماجدة" و"عاهرات مبرة ريري الخيرية" و"عرض عام لسوق النخاسة في مستشفى حكومي" و"نساء أربع في الإمام الشافعي".

ومنها أيضا عناوين غريبة غامضة مثل: "وجوه البطالحة المتطلعة للسأم الأعلى" و"كشك الموسيقى الياباني يهتك عرض النسيج الوطني" و"منبت البشرية" و"عراقي كوني عاري الصدر أمام فوهة مدفع قومي" و"الهاربيز تطير فوق جزيرة الدهب" و"رمح داجون يخترق الجسد وحسن الربة عنات يقتل العزيز" و"يد الجنين ترسم على بطن الأم علامة الانتصار" و"تموت السادية عندما تقضي الماسوشية نحبها" و"مقتل الأراجوز من الرجل الغوريلا وإصابة شيخ البلد من فحيح امرأة" و"ضحى تسكن في الجناح الشرقي في صراط الضمير الإنساني" و"الملاك ميخائيل يداعب فيرونا وبونا تتابع من بعيد" و"شيفا والألوان الأربعة" و"تاج إينانا ربة السماء من مرآة الحمام" و"ضباع ونعام والبحث عن الأكسجين" و"الوقواق في عزاء الصالون النحاسي" و"عواء وفحيح وعرار ظليم في الاحتفال بموتي".

إن هذه طريقة تشبه إلى حد ما تلك التي تتبعها بعض المنابر الصحفية في سبيل جذب القارئ إليها، فتضع عناوين لا تعبر بالضرورة عن المضمون الدقيق والأمين للخبر، لكنها تغازل رغبة القارئ في البحث عن الغريب أو غير المألوف وسعيه إلى كشف الغامض، وإتمام الناقص. لكن الكاتب لا يقع في هذا الفخ تماما، فحين تقرأ ما تحت العنوان قد تجد أحيانا مبررا له في كتابته على هذا النحو، وكأنه تعليق على لوحة لفنان تشكيلي سريالي، يطلب منك أن تجهد ذهنك في معرفة التفاصيل أو التوصل إليها عبر التأويل.

ويستمر الكاتب في مواجهة التابوهات السائدة في ثقافتنا، فيهز هذه المرة بعض التصورات الدينية، متكئا على أن عائلة "الشمندر" نفسها ليست حريصة على أداء الطقوس الدينية، حتى كان الناس يعتقدون أنها تدين باليهودية، ساندين هذا إلى أن اسم الجد هو "يوسف مراد، وأنه يشارك أحد يهود مصر في تجارة"، حتى سمعوا القرآن يرتل في بيتهم عبر الإذاعة، ذات مرة، فسألوا: هل أسلم الخواجة؟

وفي سبيل تحقيق هذا يشاكس بطل الرواية رؤى دينية راسخة، فيعتقد أن الآلهة كانوا سعداء ومتآلفين في السماء، وجاء إخناتون بدعوته إلى التوحيد، ليقلب هذا التناغم إلى فرقة وشقاء، وهي وجهة نظر مخالفة للتصور السائد، الذي يعلي من شأن هذا الرمز الديني التاريخي في الحضارة الفرعونية وما تلاها. ثم يعمد إلى استعراض بعض معلومات عن ديانات العالم، خاصة تلك المتعلقة بآلهة الهند، واللوحات الفنية الدالة على ذلك، معتقدا أن مثل هذا التعدد في صالح ثراء الفن.

وتأتي السياسة كلوحة خلفية باهتة في الرواية، ليس لها من وظيفة سوى أن تعين الزمن الذي تجري فيه الأحداث وتحدده. فمن خلال شخصيات تاريخية، ووقائع وأحداث سياسية، تتوالى في مقاطع الرواية، ندرك أن زمنها يتمطأ تقريبا من أوائل القرن العشرين إلى مشارف عقده الأخير، مطوقا عائلة ممتدة، واسطة عقدها هو "شهاب الشمندر" بطلها والراوي المحيط خبرا بكل تفاصيل عيشها وتطورها، المتقاطع مع ما يجري من أحداث، بوصفها عائلة ممكنة، تراوح بين العليا والوسطى، وبذا فإن تأثير الأحداث عليها يكون مباشرا، لكن الكاتب لم يقحم السياسة بفجاحة في المسار الدرامي، إنما تركها تشكل لوحة خلفية عريضة، وليس "تابو" يعمل على كسره.

ويتكرر وجود أشياء وأفكار وطقوس متعلقة بالفن والنساء والدين في أغلب مقاطع الرواية، حتى لو اختلفت الحكاية التي يدور فيها المشهد أو المقطع، ودخلت إليه شخصيات جديدة. وكأن "شهاب الشمندر" شخص مستسلم للدوران في هذا الفلك، لا يرغب في أن يبرحه، فهو عالمه ودنياه، وهو مستقره ومقامه، وحياته أشبه بدوائر متداخلة أحيانا، ومتماسة أحيانا، لا تمضي في خط مستقيم؛ لأنه لم يشأ أن يطور أهدافه، أو يتعظ مما جرى له. فالمراهق الذي فكر في الانتحار حين رسب في الصف الأول الثانوي، لم يكف عن استعراض هشاشته واستلابه وضعف إرادته، لا سيما أمام النساء.

إعلان