إعلان

مصر بعيون محفوظ

مصر بعيون محفوظ

د. ياسر ثابت
09:01 م الثلاثاء 11 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بينما يستذكر كثيرون نجيب محفوظ، أحد أبرز رواد الرواية العربية والابن النجيب للثقافة المصرية، في ذكرى ميلاده (11 ديسمبر 1911)، يبدو نموذج هذا الروائي الكبير جديرًا بالتأمل.

الرجل الذي لم يسافر خارج مصر إلا مرتين لا أكثر، سافر إلى أربعة أركان الدنيا بأدبه وإبداعه. تمكن الكاتب الذي كان يخط كل كتاباته بالقلم الحبر أو الرصاص من أن يحفر مكانته عميقـًا في الوجدان المصري والعربي، بعد أن راهن على فن الرواية الذي وصفه في رده على عباس محمود العقاد بأنه "شِعر الدنيا الجديدة".. وهكذا كان وفيـًا لرهانه الرابح.

لا يمكنك سوى أن تتأمل وتعجب كيف انتصر الموهوب في نهاية الطريق على دولة تعبد موظفيها متوسطي المواهب، وكانت، قبل وقتٍ قريب من مفاجأته لها بفوزه بنوبل، لا تعرف الفارق بين مشروع رجل يؤسّس فن الرواية العربية ويطرق أبوابها بجرأة، وبين ما يكتبه غيره ممن تطرحهم السّلطة أو تروّضهم، قبل أن يدركوا أن ما يفعله ينتمي لشيء أرحب.. شيء يُدعى "العالم".

الموظف، المنضبط، احتمى بأخلاق متوسطي المواهب في الاحتماء بالظل، تلك الوظيفة المملة، لم يضيع عمره في محاربة ديناصورات لديها خبرة خمسة آلاف عام كافية لقتل كل طيور الله، لم يُعادِ أي سياسة في العلن، واكتفى بادخار كل شيء لكنزه الكبير، الرواية، وبصبر جعله يعمل دون الالتفات لمديح نقدي لفترة طويلة، واختزن تمرده للكتابة، فكان يكتب بـ"عناد الثيران" كما وصف نفسه، قبل أن يدرك أحدٌ مشروعه.

التزم بالكتابة بشكل مدهش، فهو دائم القول: "أحيانـًا أنتهي من قصة قصيرة، وأحيانـًا أخرى أجلس الساعات الثلاث والقلم في يدي ولا أكتب كلمة واحدة، والموقف يتكرر كثيرًا، لكنني لا أبرح مكاني، فأنا موظف مهنتي الكتابة مثل أي موظف في مكان عمله لا يستطيع مغادرته سواء كان هناك عمل أم لا. وحي الكتابة أصبح يعرف مواعيدي، وإنني أنتظره في هذه الأوقات، فهل يصح أن يأتي ولا يجدني؟".

ومحفوظ "رجل عرف نفسه، سر قوته. كجبل المقطم بقي صامدًا، يطل- بحُبِّه وحزنه الجليل- على المدينة العتيقة المضطربة بالفقراء والمقهورين والمتسولين والفتوات. كتب ما كتب ليمحق الفقر والقذارة والتسول والطغيان".

كان محفوظ مجربـًا عظيمـًا، لم يترك بابـًا لم يطرقه ليدفع قدرته على التعامل معه إلى أقصاها. وفي تقديري أنه لم تمر تفصيلة عبثـًا في ذهن الرجل؛ إذ مر بكل ما مر به في حياته ليختزن ما يصنع به فنـًا عظيمـًا.

معه يمكن أن تدرك كيف تكون الرواية قادرة على إعطاء التفسير للخالد والعابر في الحياة وبطرق مؤثرة وخصبة، وذات أثر فردي وجماعي شامل. إن رواياته تقدم ذلك كله في نسيج واحد، للواقعي والمتخيل، الأسطوري والحقيقي، الملموس والمجرد، الجامد والحي المتدفق، المشخص والمرموز إليه، العارض والأبدي، الأخلاقي ونقيضه، الدرامي والمأساوي، الحزين والساخر، وتكشف عن التعارضات الكبرى في قلب الواقع الاجتماعي والعصر، وعمليات الصدام في قلب الإنسان وفكره وهو يكابد العالم وذاته.

إنه تجسيدٌ حي لكيفية تحرك الرواية على مستويين: مستوى الواقع ومستوى الأسطورة والحلم، أي التطلع إلى الماضي في حركته نحو المستقبل، للكشف عن الأهداف العامة للشخصيات.

بل إن هناك من يرى أنه مؤسسٌ بارز من مؤسسي قصيدة النثر العربية المعاصرة، ويستدلون على ذلك بتلك القطع والمقطوعات المكثفة المرهفة الحارة في أعمالٍ مثل "اللص والكلاب" وفي "أصداء السيرة الذاتية". في العمل الأخير، وكما هي مواقف المتصوفة التي يختبرون فيها كشوفاتهم في التجربة، وتجاربهم في الكشف، وعلى سلم الوجد بين الفكرة والمعنى، نبتت مواقف ومخاطبات ذات طابع تجريبي ووجودي تفتح أمام القارئ نوافذ جديدة لللتأويل والمعنى، كما لو أنها غرفة مليئة بالمرايا المتقابلة التي تضاعف ظلالها.

كانت الشريحة الوسطى من الطبقة المتوسطة هي الشريحة الاجتماعية التي نشأ فيها نجيب محفوظ وترعرع، بل ظل ينتمي إليها بنمط حياته ومزاجه حتى آخر أيامه. وكانت هي أيضـًا الشريحة الاجتماعية التي يعايشها ويشعر بالارتياح إليها، ويراقبها ويسجل تأملاته عما يحدث لها، وعن آمالها وأتراحها، ولا يرى التاريخ المصري أو السياسة المصرية إلا بعيونها. إنه لا يتجاوز حدود الدولة المصرية، وفي داخل هذه الدولة لا يتجاوز المدن إلى الريف، وفي داخل المدن لا يكاد يتجاوز القاهرة أو الإسكندرية. هكذا كانت القاهرة هي المكان البطل لمعظم أعماله، أما الإسكندرية، التي كان ينتقل للعيش فيها خلال فترة الصيف، فقد مثلت المسرح الرئيسي في روايتيه "السمان والخريف" و"ميرامار"، وظهرت بصورة أقل في رواية "الطريق"، وقصة "دنيا الله".

في هاتين المدينتين، أو في ظل ما يمكن أن نسميه بـ"الوعي المدني" نسبة إلى المدينة، لم يكن يخرج عن أحياء الشريحة الوسطى في داخل هذه الطبقة المتوسطة، التي يعرفها ويخالطها ويدرك همومها وقضاياها.

كان نجيب محفوظ من هذا الحشد الذي لا يعرف بعضه بعضـًا في شوارع القاهرة، لكنه نقل روح المكان والبشر بكلماتٍ شديدة الصدق والتفرد، وابتكر مرايا إبداعية تعكس أحوال الروح الإنسانية المحتشدة بالأمل والمسَّرة والقلق والضياع والاغتراب والعجز وانتظار الموت.

ولعل أبرز سمات "الوعي المديني" الذي تجسد بعمق في روايات محفوظ هو تمثل كاتبها لقيمها التي تتصف بالتنوع والتعدد، وهو ما نراه متجليـًا مثلًا في نزوع رواياته إلى "تعدد الأصوات"، وانشغالها بتصوير عالم المدينة، وتحديدًا القاهرة، وعلى الوجه الخصوص "الأحياء الشعبية" التي تطرح بقوة عالم المهمشين والفقراء، من صاحب المقهى إلى صبي المعلم، ومن بائع البسبوسة إلى صانع العاهات.

ببساطة، لا يمكن أن نفهم مصر من دون محفوظ، ومن دون أبطاله الذين يتماهى معهم القارئ.

إعلان