إعلان

البحث عن رجال للدولة

البحث عن رجال للدولة

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 29 أكتوبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في نهاية تسعينيات القرن الماضي كتب الراحل الدكتور حسين أحمد أمين مقالًا صادمًا بجريدة العربي الناصري، تحت عنوان "المثقف المومس"، تكلم فيه عن ظاهرة تحولات المثقفين والسياسيين، وخلعهم لقناعاتهم ومبادئهم القديمة، وتجارتهم بها، بهدف نيل الرضا من أصحاب السلطة والنفوذ الجدد، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية، والاستمرار في صدارة المشهد، بصرف النظر عن قناعاتهم بخيارات وسياسات السلطة التي يخدمونها.

وقد انتهى إلى القول بأن نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك نجح نجاحًا منقطع النظير في تعميم الفساد وآليات الإفساد في أغلب قطاعات الدولة. كما نجح في شغل كل إنسان في مصر - مهما كان علمه أو مهنته- بمصالحة الشخصية والمالية، وإبعاده عن الاهتمام بهموم الوطن والعمل من أجل الصالح العام. كما نجح أيضًا نجاحًا غير مسبوق في مسخ النخبة المصرية الثقافية والسياسية، وهدم القدوة والمثل الأعلى، وتشويه صورة رجل الدولة.

وأظن أن تلك السياسة التي تبناها الرئيس الأسبق مبارك وجماعة المصالح المحيطة به، كانت سياسة موجهة ومقصودة، وتهدف إلى مسخ وتقزيم القيادات والنخبة السياسية في مصر، بل وتقزيم مصر الدولة والدور والتاريخ، حتى تصبح بقامة "الوريث" الحالم بالملك بعد أبيه، بحيث يظهر بمفرده في الصورة كعملاق، ويبدو كل المحيطين به دونه في كل شيء.

واليوم نجني في مصر الحصاد المر لتلك السياسة المُغرضة، التي فرغت النخبة المصرية من الكوادر الوطنية الواعية المخلصة، وأفقرت مؤسسات الدولة في هذه المرحلة الحاسمة والفارقة من تاريخ البلاد من نموذج "رجل الدولة" المميز علمًا وخلقًا، والنزيه، ونظيف اليد، والوطني، والمخلص، والمتفاني في عمله دون استعراض، والذي يتمتع بأكبر قدر من التجرد وإنكار الذات. الشجاع القادر على اتخاذ القرار في التوقيت المناسب، وتحمل عواقبه.

صاحب الرؤية والإرادة، الموهوب في التفكير خارج الصندوق. ثم في النهاية – وهذا هو المهم- الذي يتعامل مع الوظيفة العامة بوصفها مهمة وطنية وليست مغنمًا شخصيًا.

وأظن أن ثورة يوليو 1952، وما تبناه الرئيس عبد الناصر بعدها من سياسات اقتصادية واجتماعية، نجحت في تغيير شكل وواقع الحياة في مصر، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، لأن الرئيس عبد الناصر اعتمد في أغلب مراحل حكمه على عدد لا يحصى من ذوي الكفاءة العلمية والمهنية من العسكريين والمدنيين. وقام بتكليفهم بمهام واضحة ومحددة، قصيرة المدى أو استراتيجية بعيدة المدى، مع الاحتفاظ بحقه كرئيس دولة في تعديل الاختيار باستمرار، كلما بدت ملامح قصور أو انحراف شخصي أو إداري.

ولهذا عرفت الخمسينات والستينات أسماء لامعة لمدنيين وعسكريين كبار، شغلوا مواقع القيادة في المناصب السياسية والتنفيذية، وكانوا رجال دولة من الدرجة الأولى، كالسيد زكريا محي الدين، والمهندس صدقي سليمان، وكمال رفعت، والمهندس حلمي السعيد، والدكتور ثروت عكاشة، وعبد القادر حاتم، وعزيز صدقي، وكمال رمزي إستينو، وسليمان حزين، وغيرهم من رجال الدولة المخلصين.

وأظن أن الدولة المصرية بكل ما تواجهه اليوم من تحديات ومخاطر وتهديدات، تحتاج إلى أن تُعيد للمواطن المصري الثقة في مؤسسات وسياسات وقيادات الدولة، بأن تُعيد فرز النخبة المهنية والسياسية، وتجاوز معايير اختيار القيادات التي سادت في عصر الرئيس الأسبق مبارك، والتي تأسست على العلاقات الشخصية والمحسوبية، بما يسمح بظهور رجال دولة جدد، من أهل العلم والكفاءة الحقيقية، ويملكون في الوقت ذاته إيمانًا تامًا بخيارات وسياسات ومشروع وطموح السلطة التي يعملون في إطارها، وليسوا "شوية موظفين وأرزاقية"، يعملون لمصالحهم الخاصة.

رجال دولة من عينة السيد زكريا محي الدين والمهندس صدقي سليمان؛ فالأول كان "رجلًا ذكيًا، وحازمًا، وحاسمًا، ولا تهمه الشعارات بقدر ما تهمه الحلول الواقعية للمشكلات". والثاني "واحد من البنائين العظام في تاريخ مصر، وكان تكنوقراطيا ممتازًا قبل أن يكون سياسيًا. وقد استطاع أن يرد إلى كل مصري ثقته في نفسه وفي وطنه، وأن يثبت أن المصري عند التحدي قادر على فعل المعجزات".

إعلان