إعلان

مصطفى محمود.. رحال في دروب "العلم والإيمان"

04:49 م الخميس 31 أكتوبر 2013

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- محمد مهدي:

شوارع هادئة، بيوت ساكنة، عائلات تلتحف ببعضها البعض أمام شاشات التلفزيون، في تمام الساعة التاسعة من يوم الاثنين، تنساب في الأرجاء أصوات ناي حزين ودقات طبول، ايذانا ببدء البرنامج الشهير "العلم والإيمان" للدكتور مصطفى محمود، ذو الكلمات المتأنية، والضحكات المميزة، والشرح المستفيض لأسرار الكون، كعادة أسبوعيه اعتاد عليها المصريين، ينهلون فيها من علم الرجل، وطريقته المميزة في تفسير وتبسيط الأفكار والمعادلات والتاريخ وأحدث ما توصل له العلماء، بصوت هادئ واضح يُطبع في الذاكرة.

طفولة مختلفة عاشها "مصطفى محمود" منذ أن أطلق صرخته الأولى مُعلنًا حضوره لعالمنا في ديسمبر عام 1921، في منزل هادئ بشبين الكوم بالمنوفية، لم يسمع فيه أصوات عالية أو كلمات نابية، لم يتعرض لضغط من أسرته في شئونه، رغم المشاكل التي واجهتهم كأي أسرة متوسطة لكنه كان ينعم بحياة طيبة، أعطت له مساحة لعقله أن يرتحل في عالم الخيال "كنت طفل حالم، في حالة سفر مع الخيال باستمرار، بحلم أني بستكشف الجزر والبلاد والشعوب، وبدخل معارك وانتصر".

تعثر العالم الكبير، في سنواته الأولى في الدراسة- الابتدائية-، بعد أن حصل على عدد من الأصفار في كافة المواد لمدة شهور متتالية، ترك بعدها المدرسة لمدة 3 سنوات، بسبب المعاملة السيئة من المدرسين، وتعرضه للضرب بالعصى، لكنه أنتظم مرة آخري في دراسته، وعاد ليصُبح في غضون أشهر قليلة من الطلاب المتفوقين ويستمر على نفس المنوال في كل السنوات الدراسية، حتى ينضم لركب طلاب الثانوية العامة، ويتفتح ذهنه للكون وأسراره، ويظهر شغفه بالعلوم، يُنشئ معمل داخل منزله، يُقيم فيه تجاربه، ويتبحر في كتب الفلك والعلوم، تزامنا مع تعلمه الموسيقى وانغماسه في القراءات الأدبية "كنت بَشرح حشرات وضفادع في معملي، وأهتم بالشعر والقصة، وعزف الناي والفلوت".

"النظرة العلمية الصرف لكل شئ، خلتني أطبق منهج الشك" أنشغل "مصطفى محمود" في شبابه بتوجيه أسئلة إلى أسرته حول حقيقة الأديان، والتصريح برفضه لبعض الأفكار، يطالب ببرهان لكل المسلمات، وينغمس أكثر في الاتجاهات العلمية، التي أودت به إلى "علقة ساخنة" تلقاها في إحدى المساجد عند محاولته مناقشة أحد المشايخ، كان منشغل حينذاك بالدخول في زمرة العلمانيين ومناهجهم أمثال "سلامه موسى" و"إسماعيل مظهر"، على حد قوله.

"بداية العودة إلى الله بوقفتي أمام الموت، ثم مسيرة طويلة أمام الأسرار الكبرى".. 12 عاما قضاها "مصطفى محمود"، في دروب الشك يبحث عن الإيمان، خاضها بشكل علني في عام 1956 بعد صدور كتابه "الله والإنسان" الذي رفض فيه الكثير من المسلمات الدينية، وناقش بمبدأ الشك فكرة الأديان، وقُدم بسببه لمحكمة أمن الدولة بعد موجه واسعة من الاحتجاجات شنها الأزهر الشريف ضده، وحُكم أمام قاضي متصوف، ودافع عنه المحامي "محمد عبدالله" متخصص في جرائم النشر، لمدة 30 يوما على التوالي.

صدر الحكم بمصادرة الكتاب دون المساس بالمفكر الشاب، ليكمل رحلته الشائكة حتى صدور كتابه "القرآن محاولة لفهم العصر" عام 1968، بداية رحلته-الجديدة- الإيمانية كما وصفها، احتاج الأمر منه خلال تلك السنوات إلى قراءات متعددة، واخلاص ذهني، وايمان بما يصنعه بأن البحث قدر المفكرين "رحلة إعادة النظر في كل شئ من طبيعة المفكر، غير منتظر منه أن يتبع شئ دون التفكير فيه، لكني أخترت الشك المؤدي إلى الإيمان، وليس شك نتيجة المعاندة والمكابرة".

"الدكتور" أصبح لقبه الرسمي، بعد تخرجه من كليه الطب عام 1953، وعمل أثناء الدراسة وبعدها  كصحفي وكاتب بجوار مهنته كطبيب لأمراض الصدر، ونُشر له مجموعة قصصية باسم "عنبر 7" مستوحاه من فترة قضاها في مستشفى ألماظة، وصدر له "رائحة الدم" و"شلة الأنس"، وأول رواية طويلة "المستحيل" التي تحولت لمسلسل إذاعي، نقلها إلى السينما المخرج حسين كمال، ومن ريعها اشترى عام 1979 قطعة أرض بمنطقة المهندسين وأنشأ مسجد مصطفى محمود، الملحق به 3 مراكز طبية.

"لن تكون متدينا إلا بالعلم ...فالله لا يعبد بالجهل" كلمات قالها وحاول تطبيقها ونشر مفهومها في برنامجه الشهير "العلم والإيمان" الذي بدأه عام 1971، على التليفزيون المصري، واستمر حتى نهاية التسعينات، قدم خلال تلك الفترة أكثر من 400 حلقة، عن الإنسان والحيوان والنبات، عن الطبيعة وعلاقة كل الكائنات الحية ببعضها، بَسط المفاهيم الصعبة، وفسر الأشياء التي تصعب على المواطن العادي، قدم المعلومات بشكل سلس خلال مدة حلقاته، وخلق علاقة وطيدة مع المتلقي لعلمه، ليُصبح برنامجه ادمان طيب لا يمكن تفويته، لكن الحكومة  كان لها رأي أخر فتم وقف البرنامج، وأشارت الأقاويل أن الأسباب سياسية.

مضايقات عديدة تعرض لها "مصطفى محمود" من الحكومة في فترة التسعينات، بمنع مقالاته من جريدة الأهرام، ووقف برنامجه على التلفزيون المصري، مما أثار غضبه، وتشتد الأزمات المتكالبة عليه بعد الهجوم الشديد الذي تعرض له عقب صدور كتابه "الشفاعة" الذي ناقش خلاله مفهوم معنى الشفاعة كما وردت في القرآن، وعن اختلافها عن الشفاعة بمفهومها الدنيوي..

يختار بعدها الانعزال، فَضل البقاء في منزله بجوار أحفاده من ابنته " أمل "، ولم يلتفت للإشاعات التي أثيرت حول إصابته بنزيف في المخ، وفقدانه للذاكرة، بينما كان ينعم بصحة جيده، تدهورت في سنواته الأخيرة، فأجرى عمليات في المعدة والقلب، وعانى من آلام شديد في قدميه، انتهت كلها برحيله في صباح 31 أكتوبر عام 2009ـ، تاركا لنا 88 كتاب بقدر سنوات عمره التي أمضاها في عالمنا.

فيديو قد يعجبك: