إعلان

نظريَّات «كورونا» و«واجب الوقت»

د. محمود الهواري

نظريَّات «كورونا» و«واجب الوقت»

09:30 م الأربعاء 08 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم: د. محمود الهواري

ظهر فيروس كورونا المستجدُّ لعلَّة يعلمها الله -سبحانه وتعالى-، ونحن في الأصل متعبِّدون لله ربِّ العالمين بما أَمَرَ به، بغضِّ النَّظر عن إدراكنا للعلَّة والحكمة من تشريعه، وهذا هو الفارق بين من يقولون: «سمعْنَا وأطعْنَا»، ومن يقولون: «سمعْنَا وعصيْنَا»، مع الاتِّفاق على أهميَّة العقل وإعماله بالتَّفكير في مجاله بضوابطه.

لكنَّ البشريَّة الَّتي ذهلت عن مهمَّتها بالشَّهوات والشُّبهات، واتَّبعت المذاهب والفلسفات، والآراء والنَّظريَّات، وظنَّت أنَّها بذلك ملكت من أمرها شيئًا= راحت تنظِّر وتؤصِّل وتبحث عن العلل وراء التَّشريع، والحكم وراء الأقدار، ولكن أنَّى تدرك البشريَّة حكمة الحكيم الخبير؟!
اطمأنَّت البشريَّة بما أفاض الله عليها من نِعَم، وظنَّ أهلُ الأرض أنَّهم قادرون عليها، فأتاها فيروس من أصغر ما خلق الله، حتَّى إنَّه لا يدرك بالعين المجرَّدة، فأقام البرهان القاطع والدَّليل السَّاطع على ضعفها وعجزها.

وبدلًا من أن تعترف البشريَّة بالعجز والتَّقصير، فترجع للعليم الخبير، راحت تبحث في مراد الله وحكمته في أقداره، وتحاول تعليل وجود هذا الفيروس، وانتشاره بين النَّاس بنظريَّات مختلفة، وكلَّما طرحوا نظريَّة أو تفسيرًا رفضه الواقع.

ولا يفقه هؤلاء الَّذين يتعجَّلون بالتَّفسير، ويحصرون حكمة الله في فهم معيَّن أنَّ حكمته -سبحانه وتعالى- غيب لا يُدرك على وجه القطع، ولا يحيط به إنسان على الجزم واليقين.

فسَّر بعض النَّاس هذا الفيروس في بداية أمره في ضوء نظريَّة «العقوبة الإلهيَّة»، ورأوا أنَّ «كورونا» عقاب من الله لبعض النَّاس على ما ارتكبوه من أخطاء، وكأنَّ هؤلاء المخطئين من وجهة نظرهم شياطين الإنس، وأنَّهم همو ملائكة الله!
ولا أدري لماذا يطنَّ في رأسي كلامُ أبي هريرة –رضي الله عنه- حين قال: «يُبْصِرُ أحدُكم القذَاة في عينِ أخيهِ ويَنْسَى الْجِذْعَ في عينِهِ».

فكلُّنا يا عزيزي القارئ مخطئون ومقصِّرون، ولكنَّنا نتفاوت في الخطأ والتَّقصير، وليس واحد منَّا معصوم، فلنفقه!
وبعد أن فشِلت «نظريَّة العقوبة» في تفسير وجود الفيروس، عمدوا إلى نظريَّة أخرى، وهي «نظريَّة البلاء»، فرأوا أنَّ هذا الفيروس بلاء من الله لخلقه، ثمَّ بالغوا في هذه النَّظريَّة جدًّا، وانشغلوا بتفاصيلها، فراحوا يفرِّقون بين «البلاء» و«الابتلاء»، ويوردون لكلٍّ منهما معنى مستقلًّا، ويستدلُّون على ذلك بسياقاتٍ قرآنيَّة، وشواهدَ لغويَّة، ويجعلون أحدهما في الخير، والآخر في الشَّر، ويخصُّون بأحدهما أهل المعصية، وبالآخر أهل الطَّاعة في مبالغة غريبة أبعدتنا عن المقصود.

ويذكِّرني أهل تلك النَّظريَّة بمن حضر وقت الصَّلاة فأراد أن يشرح لطلابه درسًا عمليًّا فيها، فبدأ بالكلام على أنواع المياه المطهِّرة، ثم استرسل في كيفيَّة تفاعل الذَّرات المكوِّنة للماء من أوكسجين وهيدروجين، ففاته مقصوده الأصليُّ من تعليم الصَّلاة الَّتي حضر وقتها، وفاتته الصَّلاة أيضًا، وكلامه حقٌّ، ولكن «لكلِّ مقام مقال» كما يقال.

وانضمَّت ثالثة النَّظريَّات إلى أختيها السَّابقتين فتعلَّق بها كثيرٌ من النَّاس، وهي «نظريَّة المؤامرة»، الَّتي تفسِّر الفيروس على أنَّه حرب تشنُّها أنظمة على أنظمة. وفي طرفة عين أو أقلَّ تحوَّل هؤلاء المتعلِّقون بهذه النَّظريَّة إلى محلِّلين سياسيِّين، ومفكِّرين اجتماعيِّين!
وغاب عن هؤلاء أنَّ السِّياسة لها رجالها، وأنَّ الاجتماع له علماؤه، وأظهر هؤلاء بجرأتهم على ما لا يحيطون به علمًا إحدى عورات المجتمع عندنا، وهي أن احترام التَّخصُّص ضعيف، مع أنَّنا نقول فيما بيننا: «أعطِ العيش خبَّازه» .

وقد تصحُّ هذه النَّظريَّات أو لا تصحُّ، وليس من شأني أن أطلب أدلَّة تؤكِّد صدق إحداها، أو غلطها، وإنَّما يعنيني ما أُمرت به، وما ينفعني للتغلُّب على هذه الوباء، لينقلب شرُّه خيرًا، وبلاؤه عافية.

لقد شُغلنا بهذه النَّظريَّات فاستهلكت أوقاتنا، وأحرقت أعصابنا، وأجهدت عقولنا، وأقضَّت مضاجعنا، وأتعبت أفئدتنا، وغاب عنَّا جميعًا أنَّنا ينبغي أن ننشغل بواجب الوقت.

وواجب الوقت، أو عبودية النَّازلة تختلف من فرد إلى فرد، ومن مؤسَّسة إلى مؤسَّسة، ولكنَّنا نتَّفق جميعا في واجب واحد، ثم نختلف فيما دون ذلك من واجبات
.
فأمَّا الواجب الَّذي ينبغي أن تتَّفق فيه الأفراد جميعًا، فهو تحقيق عبوديَّة الأقدار، من: «تحقيق الإيمان بالله»، و«التَّوكُّل عليه»، و«الثِّقة فيه»، و«حسن الظَّنِّ به»، و«توقُّع الجميل منه»، و«الرِّضا بقدره والصَّبر عليه»، و«الصَّلاة بين يديه»، و«دعائه»، و«رجائه»، و«ذكره»، و«الأخذ بالأسباب من طهارة بدن وثياب»، و«تجنُّب أذى النَّاس»، و«وإيصال الخير لهم»، و«المحافظة على النَّفس وعلى الغير وعلى المجتمع»، و«الالتزام بالتَّعليمات»، و«التَّعاون مع الأجهزة المسئولة».

وأمَّا الواجب الَّذي يختلف من فرد إلى فرد بحسب إمكانيَّات كلٍّ فـ«التَّوعية»، و«نشر الطمأنينة»، و«الصَّدقة»، و«التَّكافل»، و«احترام النَّظام»، و«الأخذ بالأسباب»،
وأمَّا الواجب على المؤسَّسات فـ«السَّعي في مصالح النَّاس»، و«حسن إدارة الموارد في ظلِّ الأزمة» و«الأخذ بيد من حديد على من يشيع في النَّاس الذُّعر»، و«السَّعي بالأسباب العلميَّة لاحتواء الفيروس بمصل أو لقاح»، «وتبصُّر حركة الدُّول واتِّجاهاتها».

أرجو الله تعالى أن تخرج بلادنا من هذه الأزمة وقد اشتدُّ عودها، وازدادت خبرة، وعرفت طريقها، وعرف أبناؤها واجبهم.

إعلان