إعلان

النفاق المعاصر

الدكتور محمود الهواري

النفاق المعاصر

08:00 م الأحد 04 نوفمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم- د. محمود الهواري

عضو المكتب الفني لوكيل الأزهر

ترتبط كلمة النفاق في ذاكرتنا بعلامات وأوصاف خاصة، مذكورة وموثَّقة في نصوص نبوية كثيرة، وبقدر وجود هذه الأوصاف والعلامات في إنسان ما بقدر قربه من النفاق أو بعده عنه.

وتدور هذه الأوصاف في أغلبها حول الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والغدر في العهد، وخيانة الأمانة، والفجر في الخصومة.

ومن آفاتنا أننا قد نحفظ النص، ونردده ليل نهار دون أن نفطن إلى معانيه، أو ننزله من واقعنا بالمنزل اللائق، وأنا لا أدعو قطعا إلى أن نتنابز بالألقاب فيما بيننا، أو أن نتراشق بالتُّهم، فما أحوج مجتمعنا إلى التَّخلق بالاحترام والمودة والأخوة، خاصة بعد الأحداث التي مرت به ومر بها في الفترة الأخيرة.

لكن آفتَنا أننا نعامل النَّصَّ أحيانا كأنَّه أثر قديم في متحف، تنتهي علاقتنا به في حدود (الفرجة) عليه، دون أن نستعمل مقاصده ومعانيه في ضبط الحياة المعاصرة، وأحيانا نهمله فلا يرقى لمستوى أثر في متحف، وفلا أثر ولا تأثير، وكأنه لم ينزل فينا ولم يشرع لنا.

إن النصوص الشريفة قد تكون جرس إنذار، وإذا كان وصف النفاق مما يفرُّ منه الناس، فلا يرضى عاقل أن يوصف به أو ينسب إليه، فإن النص سيظل معناه موقظا ومنبها لكل إنسان.

ونظرة عجلى في دنيا الناس تبين إلى أي حدٍّ حصَّل إنسانُ العصر من علامات النفاق ما لم يحصله إنسان الغاب.

فما أكثر ما يكذب الإنسان على الناسّ حتى إنه ليكذب أحيانا على نفسه التي بين جنبيه.

وما أكثر ما يَعِد إنسان ولا يفي بما وعد، مع علمه السابق أنه لن يفي.

وما أكثر ما يخون موظف أمانة وظيفته فلا يؤدي ما اؤتمن عليه.

وما أكثر ما يبالغ الإنسان في خصومته مع غيره، فيكشف من سرِّ قريبه وصاحبه وصديقه وزميله ما كان بالأمس القريب أمينا عليه، فيجمع إلى كشف السر وهتك الستر وخيانة الأمانة الفجور في الخصومة.

وحتى لا أتهم بأنني أرى الحياة بنظارتي السوداء، مع أني لا أملك نظارة سوداء ولا بيضاء، فأنا أومن أن الناس ما زال فيهم الخير وسيظل، لكن الذي يقلق حقا هذا النفاق العميق الذي يتجاوز حد كذب الإنسان أو خيانته إلى آخر علامات النفاق.

وأعني بالنفاق العميق ذلك النفاق الذي يتبرع به الإنسان طواعية واختيارا، حين يسوغ نفاق غيره، ويجعله استقامة وشرعا ودينا، فيبارك كذب الكاذب، ويمجد خيانة الخائن، ويعظم فجور الفاجر... وهلم جرا.

فالمجاملون، والمصفقون، والمباركون أسوأ حالا من المنافقين القدامى.

ومثل هؤلاء لا تبنى بهم دول، ولا ترفع بهم أمجاد، ولا تؤسس بهم حضارات، فهم أصحاب مصلحة يدورون معها حيث دارت، وما أسرع ما يبيعون من مدحوه لربح جديد.

ومثل هذا المنافق الذي يتلون بلون المجتمع؛ حتى يكون مقبولاً بين الناس لا تستقر له طبيعة، ولا يستقيم على وصف، فهو مع الراعي يلطم، ومع الذئب يطعم!

وعلى كل إنسان أن يبتعد قدر استطاعته عن علامات وأوصاف النفاق، وعلى بناة الأوطان والأمناء عليها أن يبعدوا عنهم من يتصفون بهذه الصفات رحمة ببلادنا.

إعلان