إعلان

مصمم مسجد "باصونة" يروي حكاية الوصول للعالمية من "سوهاج"

04:51 م الإثنين 04 فبراير 2019

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- إشراق أحمد:

في تسعينيات القرن الماضي، داخل مدينة اسبانية صغيرة تسمى بلباو، خاض المعماري الكندي الأمريكي فرانك جيري تحديا كبيرًا؛ كيف يُغير مصير تلك المنطقة في إقليم الباسك التي لا يسمع أحد عنها شيئًا. أقام جيري متحف جوجنهايم الشهير بتصميم أحدث ثورة في عالم البناء، تبدل حال المدينة بوجود الصرح المعماري، أصبحت قبلة للسياحة في إسبانيا. يبلغ المعماري نحو 90 عامًا ولازال ما فعله مؤثرا، يدرسه أجيال من المعماريين، امتد تأثير "بلباو" لأبعد من حدود نهر نيرفيون الواقع عليه المبنى.

لم يغادر ذهن المعماري المصري وليد عرفة "تأثير بلباو" منذ ذهب إلى باصونة عام 2015، من أجل إعادة بناء المسجد الرئيس في القرية التابعة لمركز المراغة –شمال سوهاج. تساءل؛ كيف يُسخِر علمه ومهنته لتنفيذ بناء يخدم احتياجات أهل المكان وفي الوقت ذاته يمنحهم التأثير الأصيل علم العمارة من ترك بصمة في حياتهم؟

منذ الثامن والعشرين من يناير الماضي، أصبح اسم "باصونة" ضمن 27 مكانًا على مستوى العالم شملتهم قائمة جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد، بات المسجد المقام في القرية الواقعة أقصى الصعيد مثار اهتمام واحتفاء المتخصصين.

1

طيلة الأيام الماضية، حدثت حالة احتفاء على مواقع التواصل الاجتماعي، بمسجد "باصونة" الذي ضمته قرية، تُصنف المحافظة التابعة لها بأنها إحدى أفقر محافظات مصر. مصراوي تواصل مع المهندس المعماري وليد عرفة، صاحب دار عرفة للتصميم والعمارة، تحدث مصمم المسجد عن تفاصيل إنشائه، وكيف بدأت الفكرة قبل أربع سنوات، وترشحه في جائزة دولية ضمن 201 مسجدًا حتى وصل إلى القائمة القصيرة، ووضح المعماري تكوين المسجد الجديد واجتهاده لإرساء الصورة الحقيقية عن العمارة في خدمة المجتمع، ودورها في إعادة إيجاد الحضارة وبناء الإنسان.

تلك المرة الأولى التي يترشح فيها مسجد مصري ضمن القائمة القصيرة لجائزة عبد اللطيف الفوزان، في دورتها الثالثة منذ انطلاقها عام 2011، بعدما فتحت المجال أمام كل دول العالم، كذلك هو أول تجربة لـ"عرفة" في تنفيذ بناء مسجد، لكن الطريق كأنما كان يقوده لهذه الخطوة.

قرية بعيدة عن الأنظار، في القلب منها مسجد مقام منذ مئات السنين، أعاد أهالي باصونة بناءه قبل 70 عامًا، ومؤخرًا أكل السيل سقفه الطيني وبات قيد الانهيار، أراد الأهالي إنقاذ قبلتهم الرئيسية "المسجد بالنسبة لهم هو الأساس اللي بيصلوا فيه وتطلع منه الجنائز لأن جنبه المقابر" يقول عرفة لمصراوي.

2لجأ أهل "باصونة" إلى ذوي الشأن، تحدثوا إلى العالم الأزهري الشيخ أسامة الأزهري، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية، وإمام وخطيب مسجد الفتاح العليم، والذي تعود أصوله إلى القرية، وتربطه علاقة صداقة قوية بـ"عرفة"، إذ تتلمذ على يده فكريا منذ عام 2003 بعدما التف حول مشروعه الأزهري في إحياء الحضارة وإعادة بناء الإنسان، فضلا عن مصاحبته في كثير من السفريات البحثية والعلمية وترجمة بعض كتبه للإنجليزية، مما يراه "عرفة" انعكس على اتجاهه المعماري عمومًا وتصميم المسجد بشكل خاص.

كان عرفة في العاصمة البريطانية لندن، يستكمل إقامته الممتدة لنحو عشر سنوات -لم ينقطع فيها عن مصر- يعمل على الانتهاء من دبلوم الدراسات العليا عن "المساجد التاريخية في بريطانيا"، توصل إلى أن المعماريين هناك أثروا في المساجد دون التشرب بتراث المكان، فأقاموا مباني منفصلة عن بيئتها ولا تخلق تراثًا يمكن أن يقدره ويدافع عنه غير المسلمين، واستشهد بدخول الإسلام في مصر "طلعت مباني إسلامية جدًا لكن مصرية جدا" وكذلك الحال في كل البلاد، وهو ما لم يلتفت له الكثير في العصر الحديث.

3

في ذلك الوقت أرسل "الأزهري" صور المسجد إلى "عرفة"، أخبره الأخير أن عليه المعاينة على الأرض لإبداء الرأي. لتبدأ رحلة التطبيق العملي لدراسة "عرفة" في بريطانيا دون تدبير منه.

عاد المعماري إلى مصر، في الثامن من شهر يونيو 2014، لتنفيذ مهمة لزم ألا تتجاوز ثلاثة أيام حتى يرجع إلى لندن لالتزامات الدراسة. "من القاهرة لمطار الأقصر وبعدين عربية لسوهاج وصلت 10 الصبح ورجعت تاني القاهرة الساعة 11 بليل قعدت يوم وأخدت طيارة للندن عشان ألحق محاضراتي" يستعيد "عرفة" أول مرة عرفت فيها خطاه القرية التي لم يكن يسمع عنها رغم أصوله الممتدة لمركز المنشأة القريب منها.

4

كانت الزيارة الأولى "معاينة تقنية" لتحديد الضرر الإنشائي، واتخاذ قرار "هل ينفع يتحافظ على المبنى؟"، جاءت الإجابة بالنفي في تقرير مدروس كتبه "عرفة" وأرسله من لندن إلى "الأزهري"، يخبره أن البناء لا قيمة معمارية أو تاريخية له، وأن تكلفة الترميم أكبر بكثير من إقامة مسجدًا جديدًا "الترميم مش حل جذري لأن الصعيد مبيمطرش لكن لما بتنزل مطرة بتبقى سيل وده اللي وقع السقف فالأفضل حل الموضوع من أوله".

في نهاية أكتوبر 2014 وضع "عرفة" معالم تصميم مسجد "باصونة" الجديد. يبتسم صاحب الأربعين عامًا بينما تذكر درسًا للقراءة في المرحلة الابتدائية عن طفلة فقيرة قررت معلمتها أن تصنع لها ثوبا أزرقًا للتبدل حياة تلك الصغيرة، وواقع منزلها ثم شارعها ثم حيها بأكمله إلى الأفضل. حضر المعنى في نفس "عرفة"، قرر أن يكون ذلك المسجد هو "الثوب الأزرق" للقرية.

5

لكن كيف يعالج المشاكل القائمة؟ "كنا بنعدي على الحمامات عشان ندخل الجامع ولما نقف نستقبل القبلة اللي ورا حائط القبلة كانت الحمامات وده شيء سيء جدا"، فضلا عن وجود مياه جوفية تهدد سلامة البناء.

يؤمن "عرفة" أن العمارة الناجحة هي التي تتناغم مع الطبيعة وسنن الكون "وتردد التسبيحة" حال كافة المخلوقات، لذلك كان التحدي "إزاي تعمل مبنى لا يعاكس الطبيعة؟".

450 مترًا هي مساحة الأرض المخصصة للمسجد، التزم المعماري بالقبلة، ثم حرص ألا يتعدى تلك الأمتار، إذ تحده المقابر من ناحية، ومن أخرى بيوت الأهالي، وضع دورات المياه والوضوء في "البدروم" بعيدا عن القبلة، وزاد مكانًا للوضوء بالأعلى.

يقول "عرفة" إنه اعتمد على فكرة إنشائية داعبت خياله لمدة طويلة "استعملت عنصر إنشائي قديم اسمه المثلث الكروي واللي في العادة يستخدم لتحويل المسقط الأفقي المربع لمسقط دائري لحمل القباب، لكن هنا استخدمته كعنصر مستقل متكرر 108 مرة بوظيفة مستحدثة كملقف هواء موجه ناحية الرياح المحببة ويراعي مسارات الشمس بحيث يسمح بإضاءة طبيعية تدخل إلى قاعة الصلاة الرئيسة دون زغللة بصرية أو توهج وفي المركز من تلك المصفوفة المبتكرة القبة المركزية غير المسبوقة تصميما وإنشاء وخامة"، ويبلغ قطر القبة 6 أمتار وارتفاعها 3 أمتار.

6

من طابق واحد إلى ثلاثة "بدروم وأرضي وميزانين"، القاعة الرئيسية بمساحة 160 متر، فيما راعى "عرفة" استغلال الفراغات، فصمم "البدروم" لتكون مساحته مطوعة للتقسيم إلى 9 أجزاء أو غرف على أقصى تقدير، وذلك بالتحكم في الإضاءة ووضع حواجز متحركة كحال شبيه بالمسجد النبوي، مما يتيح الانتفاع بهذه المساحة في غير استقبال الصلوات الخمس وأوقات زيادة أعداد المصلين مثل صلاة الجمعة والتراويح، فيمتد الاستفادة منها في إقامة أنشطة لخدمة المجتمع، حال محو الأمية وتحفيظ القرآن وربما استقبلت قوافل طبيبة تحضر القرية ولا تجد مكان لها سوى الطرقات.

"فهمي للعمارة الإسلامية هو أن أي حاجة لازم يكون فيها ذكر الله لازم تكون بتفكرك بربنا، معندناش حاجة اسمها مباني دنيوية أو دينية" يقول "عرفة" فيما يوضح لماذا خلا المسجد من النوافذ المعتادة إلا واحدة في مستوى أفقي يسار التوجه إلى القبلة. تطل تلك النافذة على المقابر ذات المساحة الكبيرة "فدي إشارة رمزية لما الإمام يقف ويقول صلوا صلاة مودع وتقف تستقبل القبلة وشمالك المقابر اللي فيها مدفون أسلافك".

أما استبدال النوافذ بفتحات علوية، فهو يقلل من دخول الهواء الملوث بفعل السيارات والماشية، وكذلك يذكر برمزية فعل الصلاة باعتبارها صلة مع الله في محور رأسي رمزي تهبط من خلاله الرحمات من أعلى إلى أدنى في صورة الإضاءة الطبيعية والتهوية. يؤمن "عرفة" بأهمية التناغم والوحدة بين الوظيفة والمعنى، لذلك يعمل على إيجاد السبل المتماشية مع ذلك.

لم يجلس المعماري في برج عاجي ينفذ التصميم؛ خاض جولات متحدثًا لأهالي "باصونة"، استمع لرغبتهم في وجود مئذنة، إذ تخلو القرية من المآذن، وكذلك مكان مخصص للسيدات، ورغم الخلاف على الأخير، لكن "عرفة" بمعاونة شباب القرية والمؤمنين بأهمية المكان للجميع نجحوا في تنفيذ ركن للنساء، وراعى مصمم المسجد ما قد يحتكم له البعض من عادات وتقاليد وسَخر الهندسة لتحقيق الهدف.

للمسجد الجديد مدخلان، أحدهما يطل على الشارع الرئيسي، وآخر يطل على فضاء شبه خاص بين البيوت التي عادة ما تنتمي لعائلة واحدة كبيرة يسميه أهل الصعيد "رحبة"، لا يستطيع العبور فيه إلا إن كانوا من سكان هذه البيوت ولكن يمكن لأي امرأة من القرية المرور فيها، وصولا إلى الطابق الأول حيث مصلى السيدات، فيما يمكن أن يصلين بالطوابق السفلية أيضا إن رغبن.

رافق "تأثير بلباو" مشروع المهندس المعماري، بداية من المواد المستخدمة، يقول "عرفة" إنه اعتمد على طوب محلي في البناء "طوبة مصرية رمل خفيف في مصنعين بينتجوها" وليس الطوب الأحمر، لما فيه من مزايا تتعلق بطواعيتها للتشكيل والعزل الصوتي والحراري ومقاومتها للحريق، فيما استخدم للشكل الخارجي المتماهي مع لون البيوت المجاورة "حجر الهاشمي" وهو رملي جيري يتحمل الأتربة وأشعة الشمس وذلك يلائم طبيعة المكان شديد الحرارة.

الاستسلام للمتعارف عليه، ما كان له وجود في قاموس "عرفة" طيلة نحو عامين عكف فيها على تنفيذ المسجد برفقة قرابة 30 عاملاً، ظل على عهده منذ تخرج في كلية الهندسة جامعة عين شمس عام 2001، يطمح في المزيد من المعرفة والاكتشاف، يتذكر كيف تعرف على الطوب الرملي المحلي رغم عدم شيوعه "جبته من معرض وفضلت سنة أدرسه وحطيته في ماية عشان أشوف مدى امتصاصه" ثم اعتمد عليه في بناء منزل أسرته في التجمع الخامس وكان حدثًا مستغربًا حينها عام 2005.

وواصل "عرفة" خوض التحدي في "باصونة"، يستعين بعمال لصناعة الأبواب على الطراز المملوكي القديم، "يبتكر" برجل مخصوص في القاهرة وينقله إلى سوهاج لعمل قبة المسجد، وكذلك هيكل المحراب المُقتبس من عمل فني نحتي لأستاذ الخط العربي والفن التشكيلي الدكتور أحمد مصطفى يسمى "مكعب المكعبات".

9

يُبسط المعماري تصميم المحراب المشكل من حجر "الألباستر"، يقول إن فكرة العمل النحتي تعتمد على ما اكتشفه مصطفى من أسرار نظرية "الخط المنسوب لابن مقلة"، ويقوم على مكعب مكون من ألف أخرى "10 بالطول و10 بالعرض و10 في الارتفاع ويظهر فيها أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين"، في إشارة للمعاني الكامنة في النصين المقدسين، أولهما من القرآن الكريم المتناول لقصية سيدنا داوود وضيفيه اللذين دخلا عليه المحراب يحتكمان إليه في نعاجهم، والثاني الحديث النبوي الشريف "إن لله تسع وتسعون اسما، مائة إلا واحدًا.."، وأما رمزية ذلك "تكمن في الإشارة إلى اللانهائي كما تشير الأسماء الحسنى إلى أساس علم الأخلاق في الإسلام والذي يحكم حركة الحضارة عندهم" حسب قول "عرفة".

كانت المهمة شاقة كما يصف "عرفة"، لم يهونها سوى نفحات لمسها في أهل "باصونة"، يتذكر تلك السيدة العجوز التي تبرعت بغرفة منزلها المجاور للمسجد حينما وجدت أنه يشوه ذلك المبنى البهي، ضحت بهدمها، كما فعلت بائعة "الجرير" المقابلة للمسجد، فكلما قدم المعماري وجدها اقتطعت من قوتها لشراء عصير قصب واستضافة العمال.

بالجهود الذاتية من خارج "باصونة" جُمعت أموال بناء المسجد الجديد كما يقول "عرفة"، يتشوق الأهالي لافتتاحه بعدما عايشوا بناءه "وأحنا بنصور عشان الجايزة الباب كان مفتوح ستات القرية كانوا بيشهقوا وقعدوا يقولوا الله أكبر"، فيما أصبحوا يتابعون ترديد اسم قريتهم الصغيرة، بعدما باتت على خريطة المعرفة، كما نال عمال المسجد نصيب من "تأثير باصونة".

يبتسم المعماري بينما يذكر كيف أصبح عامل بناء القبة ملقبًا بـ"المعلم بدوي" في أسوان بعدما عاد إلى رفاقه لتنفيذه عمل غير معتاد على "صنايعية" القبب هناك، أما "الأسطى سيد" عامل الرخام القادم من القاهرة، والقائم بتركيب كسوة المأذنة الحجرية، فقد حظي بثقة عملاء "قالوا له اللي يعمل ده يقدر يعمل أي حاجة".

10

يشعر "عرفة" بالامتنان بعدما أوشكت مهمته على الانتهاء، وترشيح المسجد لجائزة كبيرة مثل "عبد اللطيف الفوزان"، يتابع عن كثب ردود الفعل، يولي اهتمامه للانتقاد، يحرص على توضيح الرؤية والتحدث دائما، يضحك بينما يقول إن أول التعليقات كانت من أهل القرية، عن المئذنة المستوحاة من إنشاء حرف الألف لذلك تظهر ملتفة بعض الشيء قالوا "هتصلحوها أمتى كانوا فاكرينا خربت مننا".

يعمل "عرفة" على تحقيق حلمه بإعادة وصل ما انقطع من "السند" المعماري المصري، يطمح في إقامة مدرسة معمارية للمهندسين و"الصنايعية" معًا لتعليم العمارة بشكل عملي وكذلك أخلاق وأصول المهنة، يسترجع السؤال الذي طُرح عليه "ليه تبذل المجهود ده كله في منطقة زي دي؟"، يتذكر ما لاقاه من إحباط "مش هتعرف تعمل كده. أنت في مصر مش في أوروبا"، فيما يقرأ أحد التعليقات "المسجد ده في سوهاج بتاعتنا" فيتأكد أن رسالته بلغت طريقها، وأن "تأثير باصونة" يسير على الدرب وسوهاج أصبح لها اليوم "ثوب أزرق".


 






فيديو قد يعجبك: